لم تعرف الجامعة منذ تأسيسها جدلا اعلاميا كالذي تعرفه الان، ولم تتعرض للكم الكبير من الانتقادات كالتي تتوجه اليها في هذه الايام. وقد رفع المنتقدون شعارات اصلاح الجامعة فيما ردّ اهل الجامعة متّهمين هؤلاء بالسعي الى ضرب الجامعة الوطنية خدمة لبعض الجامعات الخاصة ولأهداف مشبوهة.
وقد ألحق هذا الجدل ضررا بالغا بصورة الجامعة، في اعتقادي لم يتنبّه له المنتقدون، كما لم تخفف منه ردود اهل الجامعة. وقد غاب عن الطرفين ان الاعلام سيف ذو حدين، يجرح ذهابا وايابا. وقد دفع الطرفان ثمن ذلك بينما كانت الجامعة، بسمعتها وصورتها، الخاسر الأكبر.
أخطأ المنتقدون اولا في موضوع طروحاتهم، لا سيما شخصنته من خلال التعرض لرئيس الجامعة بدلا من تناول قضايا كثيرة في الجامعة تتطلب الاضاءة عليها لمعالجتها، وثم من خلال طرح مواضيع بشكل غير دقيق كموضوع الاعتراف بالشهادات، وهذه نقطة جوهرية افقدت المعترضين صدقية، واظهرت ارتجالا لأنها لم تستند الى اي وثيقة صحيحة.
في المقابل لم يكن الدفاع عن الجامعة في الغالب بالمستوى المطلوب، وبدت الجامعة الوطنية وكأنها في موقف الدفاع عن النفس في الوقت الذي يمكنها بكل بساطة الاعتزاز بريادتها العلمية ومستواها ودورها الوطني ومساهمتها منذ تأسيسها بارتقاء الشباب اللبناني والتقائهم وشهادة سوق العمل بتفوق متخرجيها وتطور مناهجها، وحتى شكوى الطلاب من صعوبة الاستحصال على شهاداتها ما يدفع بالكثير منهم للتوجه الى جامعات خاصة بحثا عن شهادات سهلة المنال.
ان جزءا من النقاش الحاصل حول الجامعة مبرر حين يتناول كيفية ادارة الجامعة، والمحاصصة في داخلها على اعتبارها تحولت الى قطاع للتوظيف لا سيما مع الازمة المعيشية والاجتماعية المتفاقمة، فباتت الاحزاب تنظر اليها بابا للخدمات. فكان يفترض ان يكون منتقدو الجامعة مع ادارتها في خندق واحد من أجل التصدي للتدخلات السياسية فيها وتحصينها وتطويرها والتركيز على معالجة الملفات الحيوية فيها والتي يمكنها ان تؤخر مسيرتها. وهذه الملفات يجمع عليها أهل الجامعة، وهي فائقة الاهمية وتتطلب معالجة فورية، وأهمها:
- قانون الجامعة الذي يعود الى اكثر من خمسين عاما والذي بات عاجزا عن مواكبة توسعها وزيادة اعداد طلابها وينصّ على مركزية خانقة. وقد جرت محاولات من رؤساء الجامعة في السنوات الاخيرة لتعديله لكن من دون نتيجة. وان اي تطوير للجامعة لا بد من أن يمر بوضع قانون عصري لها والأخذ بالاعتبار تطور دور الجامعات لوضع رؤية جديدة لها.
- التدخلات السياسية في تعيينات القيّمين على الجامعة. بعدما كان هذا الامر ينحصر في تعيين رئيس الجامعة، بات معلوما ان تعيينات عمداء الكليات باتت تندرج في اطار المحاصصة الحزبية والطائفية، وقد امتد هذا الامر أيضا الى تعيينات المديرين، وبالتالي باتت هرمية الجامعة الادارية والاكاديمية تخضع لتأثيرات الاحزاب والنافذين، وهذا ما لم تعرفه الجامعة في تاريخها اذ كانت المعايير الاكاديمية والكفاءة المعيار الرئيسي. وهذه التعيينات يستتبعها تدخل مباشر للسياسيين في عدد من امور الجامعة.
- خرق قانون التفرغ، وقد بات اساتذة بعض الكليات كالهندسة وأطباء الاسنان والحقوق وغيرهم يمارسون اعمالا في القطاع الخاص من دون اي مساءلة او محاسبة من ادارة الجامعة، وهذا الامر يهدد مفهوم التفرغ كما يهدد مستوى التعليم.
- موازنة الجامعة، وهي على تناقص عاما بعد عاما، ما يعوق تطوير الجامعة وتجهيزها ومواكبة التطور في الميدان العلمي والاكاديمي وفتح آفاق جديدة امام هيئتها التعليمية.
- البيروقراطية في الجامعة وهي التي تعوق سير العمل فيها وتجعل ان معاملاتها تستغرق في بعض المرات أشهرا للوصول الى وجهتها، عدا عن الاعاقة التي تشكله هذه البيروقراطية على معاملات التطوير والتجهيز.
- المركزية الشديدة والتي تجعل ان فروع الجامعة التي تتجاوز الخمسين وشؤون طلابها الثمانين الفا تمر كلها الى الادارة المركزية حتى في امور بسيطة كتعيين لجان الامتحانات ومعاملات الموظفين والهيئة التعليمية.
- طغيان الوجود الحزبي على بعض الكليات والذي يجعل ان بعض الفروع راحت تكتسب هوية طائفية او حزبية، وهو ما يضرب مفهوم الجامعة الجامع ودورها الوطني، كما بدا أثره في بعض التعاقد الاكاديمي والوظيفي.
- تعثر مجلس الجامعة في مواكبة شؤون الجامعة الكبرى، وهو الذي يدير أمور الجامعة الى جانب رئيسها. في الواقع يغرق هذا المجلس في آلية عمل ثقيلة يشكو منها أعضاؤه اذ يستحيل على غالبيتهم قراءة جدول الاعمال الاسبوعي الذي يتخطى مئات الصفحات، كما يغرق في امور ادارية بسيطة كالتصديق على اللجان الفاحصة في الفروع والموافقة على افادات الترفيع وغيرها من الامور الادارية بدل التركيز على الامور الاستراتيجية للجامعة.
- دخول عدد كبير من الاساتذة من متخرجي جامعات خاصة من مستوى أدنى بكثير من الجامعة اللبنانية، وعبر تدخلات سياسية لم تستطع آليات الجامعة اللبنانية الاكاديمية حماية نفسها منها، وهو ما بدا واضحا في دفعة تفرغ عام 2014. والتعيينات السياسية للقيمين على الجامعة تجعل من الصعب الوقوف في وجه هذا المنحى الانحداري.
- المجالس التمثيلية في الجامعة والتي كان من المفترض ان تحرر الجامعة من سلطة السياسيين، تبين انها اوقعتها في فخ الطائفية والمذهبية، وهنا لا بد لأهل الجامعة من مراجعة حقيقية لدور هذه المجالس وكيفية توجيهها بشكل اكاديمي.
- تراجع المساءلة والمحاسبة اداريا واكاديميا مع ارتفاع مستوى التدخلات السياسية، وعدم الالتزام بنظام "البانر" المؤهل لضبط الانتظام الاداري لا سيما "التشعيب" الذي يفتح الباب امام التوظيف الاعتباطي.
- معاهد الدكتوراه، وهي تجربة جديدة في الجامعة تتطلب عملية تقويم لنتائجها وتصويب لأهدافها وآليات عملها، وهي موضوع نقاش حتى داخل مجلس الجامعة.
- آليات تقويم الابحاث والاطروحات وملفات الاساتذة، وامكان وضع الانتاج البحثي هذا في التداول وبتصرف الطلاب والباحثين.
منذ تأسيسها قبل 67 عاما، شكلت الجامعة اللبنانية رافعة للتعليم العالي في لبنان وكانت الاداة الاولى لارتقاء الطبقات المتوسطة وغير الميسورة وهي الغالبية المطلقة من الشعب اللبناني. وبذلك لعبت دورا اساسيا في تطور المجتمع اللبناني وتشكيل النخب فيه وباتت محور الحركات الطالبية مع كل ما تحمله من تطلعات التغيير والتطوير في المجتمعات عموما. وقد مهد ذلك لحركة وعي في المجتمع تمخض عنها الكثير من تحركات الشارع والطروحات الفكرية والثقافية.
كذلك ترفد الجامعة اللبنانية المجتمع اللبناني والعربي عموما بعشرات آلاف المتخرجين الذين يساهمون في نهضة الوطن والعالم العربي. من هنا أهمية الجامعة اللبنانية التي تلعب دورا تنمويا واقتصاديا كبيرا والتي تواكب تقدم العلوم والاختصاصات وتواصل توسعها حفاظا على دورها ورسالتها الريادية. بالنظر الى هذه المهمات ليس مستغربا ان تكون الجامعة الوطنية عنوانا بارزا في الاعلام اللبناني وان تكون موضوع سجالات انطلاقا من دورها هذا.
ان الجامعة الوطنية تواجه اليوم تحديات كثيرة، ولا يمكن جامعتنا الا ان ترفع التحدي من خلال عملية تطوير كبرى كي تستمر بدورها الوطني والحضاري والثقافي الذي لعبته دوما. فلا يجوز اتهام كل من يطالب بتطوير الجامعة واصلاحها بالخيانة، كما لا يجوز اطلاق الاتهامات بحق الجامعة واهلها جزافا. ان النقد البنّاء يفتح الباب امام المراجعة، وان عملية نقد ذاتي هي مدخل ضروري الى الاصلاح، لذلك على أهل الجامعة أن يبدأوا من الداخل ورشة التطوير هذه.