أدت جولة المواجهة الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وجيش الاحتلال الصهيوني إلى نجاح المقاومة في فرض معادلة الردع في مواجهة العدو وتعزيز قدرتها الردعية، وإجبار حكومة اليمين الصهيوني برئاسة بنيامين نتانياهو على التوقف عن التصعيد في العدوان وقبول وقف النار في تطور هو الأول من نوعه الذي يجري على أرض فلسطين.
إن هذا الانتصار للمقاومة عمق مأزق كيان العدو الصهيوني وجعله لأول مرة مكبل اليدين غير قادر على التمادي في عدوانه خوفا من الغرق أكثر في حرب استنزاف من العيار الثقيل حضرت لها فصائل المقاومة جيدا طوال السنوات الماضية، وهو ما عبر عنه نتانياهو بأن هناك أمورا عسكرية وأمنية لا يمكن الإفصاح عنها تقف وراء قرار حكومته الموافقة على وقف النار بشروط المقاومة، غير أن هذا القرار الذي أجبرت عليه حكومة نتانياهو تسبب في تفجير أزمة سياسية بين صفوف حكومته وخارجها من ناحية، وتوجيه صفعة قوية للمطبعين سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا مع هذا الكيان الاحتلالي الغاصب لأرض فلسطين العربية، وللمنسقين أمنيا مع أجهزة أمن المحتل ضد المقاومين من ناحية ثانية، وتعزيز شعبية المقاومة فلسطينيا وعربيا ورد الاعتبار للكفاح الشعبي المسلح وتوجيه ضربة قاصمة لنهج المساومة والتفريط بالحقوق الذي ساد في الساحة الفلسطينية منذ انسحاب منظمة التحرير من بيروت واعتمادها نهج التفاوض للوصول إلى إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل التخلي عن الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1948 والاعتراف بدولة الاحتلال فيها.
هذه النتيجة إنما جاءت حصيلة نجاح المقاومة في توجيه ضربات نوعية لجيش الاحتلال خلال هذه الجولة من المواجهة معه دللت على مدى تطور قدرات المقاومة وأدائها في ميدان القتال والتصدي لقوات العدو والرد على عدوانه من ناحية، وفاجأت حكومة العدو وأربكتها وجعلتها في ورطة حقيقية إن هي ذهبت بعيدا في عدوانها ولم تتوقف وتتراجع وتعُد إلى التسليم بقواعد التهدئة مقابل التهدئة من دون أن يشمل ذلك وقف مسيرات العودة الكبرى التي بات استمرارها يؤرق كيان العدو والمستوطنين في غلاف غزة
لقد بدأت جولة المواجهة الجديدة بتصدي المقاومين لقوة صهيونية من وحدات النخبة في جيش الاحتلال تسللت إلى شرق خانيونس بهدف تنفيذ عملية اعتقال أو اغتيال أحد كوادر المقاومة وهو أنور بركة والذي سقط شهيدا مع 7 مقاومين خلال المواجهة، التي دارت رحاها منذ لحظة توغل القوة الصهيونية بفعل جاهزية المقاومين وسرعة تحركهم وتصديهم لهذه القوة المعادية والاشتباك معها لمدة طويلة ما أدى إلى مقتل قائد القوة الصهيونية وجرح جندي حسب اعترافات العدو.. وتدخل طيران العدو الحربي لتأمين انسحاب قواته والحيلولة دون سقوط المزيد من القتلي والجرحى أو وقوع أسرى منهم بيد المقاومة.. وهو مشهد يذكر بمشاهد مماثلة لمواجهات المقاومين البطولية مع قوات النخبة الصهيونية في بنت جبيل ومارون الرأس خلال عدوان يوليو..
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد سارعت المقاومة إلى الرد بقوة على الاعتداء الصهيوني عبر قصف مستعمرات غلاف غزة بمئات الصواريخ بينها صواريخ جديدة من زاوية قدرتها التدميرية مما أدى إلى وقوع العديد من القتلى والجرحى في صفوف المستوطنين الصهاينة..
وعلى أن المفاجأة الثانية التي صدمت جيش الاحتلال استخدام المقاومة، للمرة الأولى، صاروخ كورنيت في ضرب حافلة تقل ضباطا وجنودا للعدو قرب غزة مما أدى إلى قتل وجرح العشرات منهم، الأمر الذي وجه ضربة موجعة وكبيرة من حيث ارتفاع أعداد القتلى والجرحى بين الضباط والجنود، وأظهر بوضوح أن المقاومة باتت تحوز على قدرات متطورة في مواجهة دبابات ومدرعات جيش الاحتلال قادرة على تدميرها على غرار ما حصل في حرب تموز، إن حاول العدو تطوير عدوانه باجتياح بعض مناطق قطاع غزة، أو حتى إن اقتربت هذه الدبابات والمدرعات من محيط غزة لأن الكورنيت قادر على إصابتها وتدميرها في تأكيد على نجاح المقاومة في كسر الحصار وفشله في إضعاف المقاومة..
وجاءت المفاجأة الأخرى التي كان لها تأثير كبير على معنويات جيش العدو عندما بثت المقاومة الفيديو المصور لعملية كمين العلم الفلسطيني المفخخ الذي نجح أحد المقاومين في زرعه على السياج الشائك والمكهرب حول القطاع.. والذي انتزعه وأخذه أحد الجنود الصهاينة إلى وسط الموقع الذي يتواجد فيه مجموعة من الجنود لينفجر فيهم ويحولهم إلى قتلى.. فهذا الفيديو المصور للعملية النوعية كشف عن تطور أساليب المقاومة من ناحية ونجاحها في استخدام وسيلة الإعلام للكشف عن العملية والخسائر التي وقعت في صفوف العدو والذي تكتم عليها من ناحية ثانية، وأدت إلى رفع معنويات الجماهير العربية في فلسطين المحتلة وخارجها من ناحية ثالثة.. وهو ما حصل بالفعل إثر بث الفيديو الذي تناقلته وسائل الإعلام على اختلافها وبات يتصدر وسائل التواصل الاجتماعي.
أمام هذه التطورات النوعية، التي أماطت اللثام عن مدى التطور في قدرات المقاومة وأدائها في ميدان القتال وجاهزيتها، اجتمعت حكومة العدو المصغرة لساعات طويلة لدراسة الموقف واتخاذ القرار على ضوء الخسائر الجسيمة التي وقعت في صفوف جيش الاحتلال والمستوطنين خلال بضعة أيام.. وفي خلاصة النقاشات الحامية اتخذ قرار الموافقة على قبول العودة إلى وقف النار في إطار اتفاق التهدئة مقابل التهدئة بوساطة مصرية، غير أن هذا القرار الصهيوني الذي عكس مأزق جيش الاحتلال أنه ذهب إلى عملية واسعة في غزة، حيث يتوقع أن تكون نتائجها أكثر سلبية عليه من عدوان 2014، وقد تكون مشابهة لما تعرض له جيش الاحتلال خلال حرب 2006، بفعل القدرات النوعية التي باتت تحوز عليها المقاومة الفلسطينية.. أدى هذا القرار إلى تفجر أزمة عنيفة داخل الحكومة الصهيونية وبين الأحزاب السياسية الإسرائيلية وفي وسط المستوطنين، تمثلت باستقالة وزير الحرب أفيغدور ليبرمان احتجاجاً على قرار الموافقة على وقف النار الذي اعتبره «استسلاماً إسراىيلياً»، في حين قالت زعيمة المعارضة تسيبي ليفني: «وقف إطلاق النار في غزة فشل أمني هائل ومس خطير بقدرة الردع..
إن نجاح المقاومة في تحقيق هذا الانتصار في هذه الجولة من المواجهة أطاح بصفقة القرن وإعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث وتبديد مناخات الاستسلام والإحباط التي سادت الشارع العربي على إثر تفجر أحداث ما سمي الربيع العربي، ورد الاعتبار لخيار المقاومة المسلحة وقدرته على ردع العدوانية الصهيونية وتحقيق الانتصارات على أرض فلسطين وصولاً إلى تحريرها واسترداد الحقوق المغتصبة..
انطلاقاً مما تقدم يمكن القول الصراع مع الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين دخل مرحلة جديدة بعد هذه الجولة من المواجهة والنتائج التي أسفرت عنها في مصلحة المقاومة، تجعل كيان العدو لأول أمام أزمة غير مسبوقة نابعة من كون المقاومة التي نجحت في كسر قوته الردعية وتكريس قواعد اشتباك جديدة إنما هي مقاومة موجودة على أرض فلسطينية تحررت بفعل الانتفاضة والمقاومة ونجحت في مواجهة الحصار الذي فرض عليها منذ عام 2005 وبناء قوتها الذاتية وتطوير قدراتها حتى أصبحت قادرة على ردع العدو وإدخاله في مأزق تكتيكي وإستراتيجي غير قادر على الخروج سوى بالتراجع، لأن خيار العدوان سيزيد من مأزقه في حين أن مسيرات العودة الكبرى المتواصلة تجبره على فك الحصار من دون شروط.