مع تطوّر وسائل التواصل الرقمي بمُختلف أشكالها، وتحوّل العالم أجمع إلى قرية صغيرة مُتواصلة بعضها ببعض عبر شبكة "الإنترنت" والمواقع الإلكترونيّة، وكذلك عبر مُختلف التجهيزات الإلكترونيّة المُصنّفة "ذكيّة" والتطبيقات المُلحقة بها، برزت ظواهر جديدة لم تكن موجودة سابقًا، تحت إسم Influencers. والكلمة تعني فئة الأشخاص الذين يُؤثّرون على الرأي العام، والمَقصود "الشخصيّات المشهورة" التي لديها ملايين المُتابعين عبر شبكات التواصل الإجتماعي الرقمي المختلفة(1). فما تأثير هذا التحوّل على المُجتمعات الحديثة؟.
لا شكّ أنّ تأثير هذه الشخصيّات المُسمّاة Influencers كبير جدًا في صُفوف مُتابعيها، خاصة ضُمن الفئات العُمريّة الصغيرة، أكانت مُراهقة أم شابة، الأمر الذي دفع مُختلف شركات التسويق وبيع المُنتجات–على إختلاف أنواعها، إلى الإستعانة بهؤلاء، لتفعيل حملاتها التسويقيّة والإعلاميّة. وأظهرت الدراسات الحديثة أنّ التأثير التسويقي للأشخاص المُصنّفين Influencers داخل المُجتمعات، يُعتبر من أفضل الحملات الإعلانيّة لأيّ مُنتج، بسبب إمكان الوُصول بشكل مُباشر وسريع لملايين الأشخاص، علمًا أنّ القسم الأكبر من هؤلاء المُتابعين أو Followers جاهز للتأثر بما تنشره الشخصيّة التي يُحبّونها والتي يُتابعونها. وقد أسفر هذا الأمر عن توظيف رواتب ماليّة كبيرة للشخصيّات المَشهورة والتي لديها العديد من المُتابعين، لأهداف محض تجاريّة. وبغض النظر عن طبيعة المُنتج المُفترض تسويقه (أكان عُبوة عُطور، قُطعة ملابس، سيارة، قُطعة شوكولا، عُبوة مشروب، إلخ)، صارت الشركات المَعنيّة مُضطرّة إلى اللجوء إلى خدمات "مشاهير المُجتمع" لتسويق مُنتجاتها، في مُقابل مبالغ ماليّة تختلف قيمتها تبعًا لمدى شهرة الشخصيّة المَعنيّة التي تلعب دور "المؤثّر" في المجتمع، ولعدد الأشخاص الذين يُمكن الوُصول إليهم من خلال أي "تغريدة" أو "صُورة منشورة" أو "تعليق مُقتضب"، إلخ.
وفي الوقت الذي يتمتّع جزء من هؤلاء المُصنّفين "مُؤثّرين" في المُجتمع بمُستوى علمي وثقافي جيّد، يُخوّلهم توجيه الأجيال الصاعدة بشكل مُناسب، يفتقر الكثير منهم–حتى لا نقول الأغلبيّة، للحدّ الأدنى المطلوب للقيام بهذا الدور. فالكثير مِمَّن يُصنّفون "مُؤثّرين" والذين يتمتعون بشهرة واسعة–أكانت محليّة أو عالميّة، يأتون من خلفيّات علميّة وثقافية مُتواضعة جدًا، وحتى معدومة في بعض الأحيان، لكنّهم إشتهروا في مجالات مُحدّدة، وصار لديهم ملايين المُتابعين. وعلى سبيل المثال، يُمكن أن يكون الشخص المشهور أو Influencer، لاعب كُرة قدم، أو مطربًا شعبيًّا، أو مُمثّلًا كوميديًّا، إلخ. حقّق نجاحًا لافتًا في مجال عمله، لكنّه غير حاصل على أي تحصيل علمي يُذكر ولا يتمتّع بأي مُستوى مقبول من الثقافة، يُخوّله توجيه الناس. وهنا تكمن خُطورة الدور الذي يلعبه في التأثير بالمُجتمعات، فإذا كانت الشركات التي تدفع له الأموال لتسويق مُنتجاتها تلقّنه ما يجب قوله لإنجاح حمَلاتها، في مُقابل مبالغ ماليّة مُتفق عليها مُسبقًا، فهي غير مَعنيّة بما "يبتدعه" من آراء ومن تعليقات بشأن مُختلف قضايا السياسة والإجتماع والحياة وغيرها. وسقطات "المشاهير" في هذا المجال لا تُعدّ ولا تُحصى، وهي تبدأ باللغة التعبيريّة الركيكة من حيث الشكل، وتصل إلى المُحتوى غير المَنطقي أو الإستفزازي أو السطحي أو المليء بالمعلومات المغلوطة، إلخ. من حيث المَضمون. وفي كثير من المَرّات إضطرّت بعض الشركات للتدخّل لمُعالجة أخطاء إرتكبها "سُفراء" علاماتها التجاريّة، وأثارت ردّات فعل سلبيّة جدًا لدى جُمهور المُتابعين.
والمُشكلة الكُبرى أنّ العُلماء والباحثين والمُخترعين والأطباء وكبار الكُتّاب ورجالات العلم والثقافة، إلخ. بعيدون كل البُعد عن مواقع التأثير العام، بسبب إنحراف خطير في أولويّات التغطية الإعلاميّة، وبطبيعة الحال في إهتمامات الجُمهور العريض. وعلى سبيل المثال، يمرّ خبر إجراء إختبارات علميّة شديدة الدقّة لمعرفة سر وتاريخ تكوين الكون، مُرور الكرام في وسائل الإعلام، ولا يصل سوى إلى فئة ضئيلة من مُتابعي الأخبار، بينما يُتابع ملايين البشر ما إرتدته مثلاً إحدى الشخصيّات "المُؤثرة" التي كانت قد كسبت شهرتها من "تلفزيون الواقع" وقبله من "فيلم دعارة"! وبالتالي، يُمكن الحديث عن خلل كبير وخطير في معايير إهتمامات المُجتمعات المُصنّفة حديثة، وعن إنحراف كبير في المُستوى الفكري العام للجيل الصاعد. وإذا كان بعض "المُؤثّرين" يلعبون أدوارًا إيجابيّة في توجيه المُجتمعات بشكل إيجابي، فإنّ الكثيرين منهم يُعتبرون مثالاً سيئًا للجيل الصاعد، وهم يتسبّبون في نشر الأفكار والصور والتعليقات السطحيّة والسخيفة وحتى الغبيّة في بعض الأحيان، بتغطية وبتمويل من شركات لا تهدف لنشر الثقافة بطبيعة الحال، إنّما لتسويق مُنتجاتها بأي وسيلة مُمكنة!.
في الخُلاصة، لن يكون من المُمكن الوُقُوف بوجه هذا التوجّه الجارف بسُهولة، حيث أنّ دور "المُؤثّرين" في تصاعد واضح في هذه المرحلة، لكن يجب على الأقلّ على الجيل الصاعد التمتّع بالحدّ الأدنى من الثقافة والمعرفة، حتى لا يكون مُجرّد "تابع" لشخصيّة سخيفة، ومُجرّد مُروّج لأفكارها السطحيّة، وكذلك مُجرّد رقم صغير جدًا تستغلّه لرفع قيمة الأموال التي تتقاضاها!.
ناجي س. البستاني