لم يكن يتوقع السوريون أن يتحدث وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل عن مسألة وضع لوحة تؤرخ "جلاء الجيش السوري" عن لبنان، تشبه لوحة جلاء الجيوش الأجنبية الموضوعة منذ عقود على صخرة نهر الكلب.
تنظر دمشق الى باسيل من منظار الحليف، الذي يترأس التيار "الوطني الحر"، الذي وقف الى جانب سوريا، سياسياً ومعنوياً، أثناء الحرب التي بدأت ضدها عام2011. سبق ذلك بسنتين تتويج رئيس التيار آنذاك، العماد ميشال عون، زعيماً لمسيحيي الشرق، خلال زيارته سوريا، قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية اللبنانية.
لكن دمشق التي كانت تغضّ الطرف عن تعرض باسيل لها مباشرة أو بالمواربة، كرمى لمكانة عون، حاولت أن تخفّف من وقع التصريح الاخير لوزير الخارجية اللبنانية عن جلاء جيشها عن الأراضي اللبنانية، بكلام دبلوماسي لائق يؤدّي الغرض منه، لسفيرها في بيروت علي عبدالكريم علي، الذي رأى في تصريح باسيل زلّة لسان. غير أنّ دمشق ستكون محرجة أمام جمهورها إزاء خطوة البدء بالإجراءات التنفيذية للّوحة المذكورة، خصوصاً أن نواب في كتلة "لبنان القوي" باشروا ترجمة الخطوة بطلب تقدموا به الى المعنيين في الادارات اللبنانية.
ولم تستطع دمشق ضبط الخطاب على وسائل التواصل الاجتماعي، بعدما ردّ عضو مجلس الشعب السوري فارس الشهابي على كلام باسيل في تغريدة، أتبعها بكلام على شاشة تلفزيونية لبنانية، احتوى ذات مضمون كلام السفير، لكن الشهابي إشترط عدم تكرار الكلام اللبناني عن "جلاء الجيش السوري"، ولوّح بإتخاذ خطوات سوريّة للرد العملي على "التهجم على دمشق، الذي يتمّ من خلال اعتبار أن الجيش السوري كان يحتلّ لبنان". واعاد الشهابي التذكير بأن جيش بلاده "قدّم عشرات الاف الشهداء للمحافظة على وحدة لبنان، ومنع استهداف وتهجير المسيحيين، والمساهمة في توحيد الجيش، ودعم لبنان في مجابهة الاحتلال الإسرائيلي".
فهل تُقدم دمشق على اتخاذ خطوات رسمية تتعدّى العتب؟.
تتحدث معلومات عن إنزعاج سوري، ضمني رسمي، وعلني شعبي، من كلام باسيل، والخطوات التي باشر بها نواب من تكتل "لبنان القوي" لوضع اللائحة، في ظل مطالبات سوريّة للرد، بمنع تسهيل استثمار اللبنانيين على الاراضي السوريّة، الاّ بعد تدقيق شامل. وهو ما لمسته قوى لبنانية، باتت تسأل في مجالسها عن سر دوافع كلام باسيل في هذا التوقيت بالذات: عواصم العالم تعيد علاقاتها مع دمشق، وتكرّ زيارات الوفود الحكوميّة والنيابيّة والعسكريّة والأمنيّة الى سوريا، لفتح صفحة جديدة من التعاون مع دمشق،وقد جاءت زيارة الوفد الاردني في ذات السياق لافتة، خصوصا أنه طلب من الحكومة السورية التعاون والتنسيق على الصعد كافّة، وتمّ الحديث عن الغاز والكهرباء، وكيفية تزويد لبنان بها.
فيسأل حلفاء دمشق في لبنان: هل يُعقل ان ينفتح العالم على سوريا الآن، بعد فشل الرهانات على ضرب النظام فيها، بينما يذهب لبنان الى تخريب تلك العلاقة؟!.
لا يبدو ان الرد على خطوة اللوحة سيكون سوريّاً فقط، بل سيقوم حلفاء دمشق في لبنان، بتولّي الرد السياسي على الحملة البرتقاليّة التي يشنها "الوطني الحر" في موضوع اللوحة. لكن ذلك سيولّد تداعيات سياسية:
السياسيون العونيون الذين يملكون علاقات جيدة مع دمشق، كالوزير بيار رفّول، أو اصدقاء دمشق والرابية معاً، كنائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، سيكونون في وضع محرِج.
كما سيكون "حزب الله" في نفس الوضع أيضًا، خصوصا ان الحزب سبق وكرّم الجيش السوري عند مغادرته لبنان، ورعى مهرجانا شعبيا في ساحة رياض الصلح في وسط بيروت تحدث خلاله الامين العام للحزب السيد حسن نصرالله، للإشادة بتضحيات الجيش السوري في لبنان، تحت عنوان "شكرا سوريا" في 8 آذار 2005، وسمّيت القوى التي شاركت بالمهرجان، بإسم هذا التاريخ، ولا تزال حتى الآن.
إن التصويب على السوريين، يزيد من الارباك الداخلي في شأن التموضعات الإقليمية، فيختلط المشهد، ولا يمكن ضبط الجماهير التي تتفلت من الجانبين على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما حصل في الأيام الماضية، حيث بدا مناصرو "الوطني الحر" والمتحمّسون ضد دمشق من جهة، والشعب السوري ومناصرو دمشق من جهة ثانية، في حرب التواصل المفتوحة على "الفايسبوك" و"تويتر".
كل ذلك، لم يُشغل تفكير متابعين سياسيين، لكن ما شغلهم هو البحث والتفتيش عن اسباب كلام باسيل في هذا التوقيت بالذات، فطرحوا سيناريوهات تحليلية في جلساتهم، تقوم على الاستنتاج بأن باسيل "يلعب البلياردو مع سوريا، من خلال ضرب طابة لإصابة طابة أخرى".
اولا"، هم يرون أن تصريح وزير الخارجية اراد إصابة اكثر من طابة بضربة واحدة، فأصاب مرمى "القوات" التي اضطرت من خلال تحرك نائبها في كسروان شوقي الدكاش الى اللحاق به، بشكل يعتقد انصار "الوطني الحر" أنهم كسبوا شعبياً مسيحياً، من خلال اعادة باسيل مشهد "نضالات العونيين" ضد السوريين.
ثانياً، ترجم باسيل مقولة "العدس بترابو وكل شي بحسابو"، فلا يعني الحلف الاستراتيجي مع سوريا طمس الماضي، ومحو القناعات التي قام على أساسها "الوطني الحر".
ثالثاً، وهو الأهم: هل اراد باسيل الردّ على دمشق التي يقوم حلفاؤها بالمطالبة بوزير سني لكتلة النوّاب الستّة؟ هناك من يرى أن تحرك النواب المذكورين، يجري بمباركة السوريين، بدليل العلاقة المتينة التي تربط كل نائب منهم بدمشق، حتى قيل في المجالس أن سوريا تستغرب أن يُستثنى تمثيل وزير من أحد حزبين حليفين لها، اعتاد لبنان على تمثيل احدهما على طاولة مجلس الوزراء منذ اتفاق الطائف، فإمّا يجري توزير أحد القوميين الاجتماعيين، وإما أحد البعثيين، بينما جرى كسر تلك المعادلة في التعاطي مع الحكومة العتيدة، لتحلّ المطالبة بتمثيل أحد النواب السنّة الستة، المرتبطين بعلاقات سياسية تحالفية مع دمشق.