يطرح النبي داود في المزمور العاشر السؤال الذي يجول في أذهاننا كلّما مررنا في ضيق وشعرنا بالوحدة والضعف والهزيمة والفتور الروحيّ: "يَا رَبُّ، لِمَاذَا تَقِفُ بَعِيدًا؟ لِمَاذَا تَخْتَفِي فِي أَزْمِنَةِ الضِّيقِ؟" يصعب إقناع المرء الذي يُعاني من هذا الشعور بعكسه. هناك في كلمات النبوة شيء مماثل قاله يسوع عندما عُلِّق على الصليب أيضًا: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي". طبعًا كانت هذه حالة خاصة وفريدة جدًّا عندما أشاح الآب بوجهه عن يسوع فحمل خطايا العالم لأجلنا منفردًا وبالكامل تتميمًا لحكم العدالة الإلهيّة.
أمّا واقع الحال فهو أنّنا في ظروف قاسية متنوعة نشعر بابتعاد الله عنا. فعند اشتداد عدوّ جائر علينا–أكان عدوًّا أو ظرفًا صعبًا أو مرضًا-يزداد ألمنا النفسي وحزننا فنشعر ببُعد الرّبّ عنّا. ونبدأ نسأل أسئلة عميقة تُحرّك أذهاننا: "إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ؟ إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ إِلَى مَتَى أَجْعَلُ هُمُومًا فِي نَفْسِي وَحُزْنًا فِي قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ؟ إِلَى مَتَى يَرْتَفِعُ عَدُوِّي عَلَيَّ"؟.
أسئلة تستحق النقاش. هل الله هو البعيد؟ أو هل هو قريب ولا يُريدنا أن نشعر بقربه؟ أو أنّه لا يُريد أن تكون علاقتنا مباشرة معه، فيبتعد عمدًا، فنذهب لغيره؟.
وبالوقت الذي يُناقش فيه المتألِّم موضوع حضور الله في حياته، يدور في فكر الجاهل والشرير"أَنَّهُ لاَ إِلهَ". أو أنّه هو يُريد –أو يتمنّى– ألاّ يكون هناك إله ليطمئنّ أنّه لا يُطالب ولا يُحاسب، وبالتالي ليتصرّف كإله نفسه أو كسيّد مُطلق لنفسه ولا يحتكم لسلطة أعلى منه في موضوعي الأخلاق والسلوك. يربط الوحي المقدس بين التنكّر للرّبّ والسلوك المتفلّت. "قَالَ الْجَاهِلُ فِي قَلْبِهِ: لَيْسَ إِلهٌ. فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا". يختصر بولس الرسول حالة أولئك بالقول أنهم أناس يرفضون إبقاء الله في ذهنهم ليفعلوا ما لا يليق. ويُعزّي الشرّير قلبه إذ يظن أن الله بعيد ولا يرى ولا يسمع ولا يهتمّ ولا يحفظ شيئا ولا يُبالي وبالتالي لا يُطالب ولا يُحاسب لكونه البعيد في أقاصي السماوات وهو غير مهتم بالأرض و"لاَ يَرَانَا"! لأنّهُ "قَدْ تَرَكَ الأَرْضَ".
أمّا الألم فيفيد الإنسان إذ يدفعه ليسأل أسئلة كبرى ومهمة حول موقع الله في حياته فيعرف أن الله قريب، فيعيش بظلّهِ وينعم ببركاته. "لِيَكُنْ حلْمُكُمْ مَعْرُوفًا عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ. اَلرَّبُّ قَرِيبٌ". وللذين اختبروا يومًا وقوف الرب على باب حياتهم، أقول مُجدّدًا: اثبتوا على إيمانكم بوجود الرّبّ القريب منكم. ذاك أفيَد لكم.
هل الله ببعيد؟ لا الرّبّ قريب. وهذا ما شهِد له داود في حياته. وكان لي اختبار سعيد جدًّا مع وعد الرّبّ القائل في الآية: "ها أنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي". أسأل: هل تسمع صوت قرع على الباب؟ هل تسمع صوته من خلفه؟.
أمّا للّذين لا يؤمنون بحقيقة وجود إلهٍ قريب، فأسأل: لمن تُصلّون؟ وممّن تطلبون؟ وعلى من تتكلون؟ ستبقون في وحدتكم بلا رجاء وصلواتكم بلا استجابة طالما الله بعيدا عنكم. "وَلكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ".