هناك حدود لن يتراجع عنها «حزب الله» في عملية تأليف الحكومة مهما طال الانتظار، لأنّ حساباته تتخطّى المدى القصير، أي تأليف الحكومة. فالاستحقاقات التي ينتظرها على مدى السنوات الأربع المقبلة كثيرة وخطرة، وليس من عادته أن يغامر بإبقاء شيء للمصادفة...
هذا ما بدأ يُردِّده بعض المتابعين للأزمة الحكومية في الأيام الأخيرة. فبالنسبة إليهم، هَمُّ «حزب الله» ليس أن يكسب وزيراً إضافياً، فيكون له 8 بدلاً من 7، لأن لا تغييرات ذات شأن في التوازنات داخل الحكومة يمكن أن يقدِّمها الوزير الثامن.
المطلوب، وفق هؤلاء، هو انتزاع «الثلث المعطّل» من فريق رئيس الجمهورية لئلّا يصبح قادراً على التحكّم بمصير الحكومة إذا احتاج إلى ذلك كورقةِ ضغط سياسي في أيّ استحقاق مقبل. و»الحزب» الذي سعى من خلال قانون الانتخاب إلى تقليص الكتلة الفضفاضة التي كانت للرئيس سعد الحريري في المجلس السابق، لن يتراخى إزاء تمدُّد كتلة عون من المجلس إلى الحكومة.
لا يعني ذلك أنّ «الحزب» ضعيف الثقة في عون استراتيجياً. فهو الحليف الذي مرّت به التجارب كلها «من دون أغلاط». ولو ذلك لما وافق «الحزب» على دعمه لرئاسة الجمهورية، ولكان فضّل عليه رئيس تيار»المردة» سليمان فرنجية أو سواه. لكنّ هذه الثقة لا تبرّر أن يمتلك عون «الثلث المعطّل» في الحكومة، وحده بين سائر القوى السياسية، وأن يصبح قادراً مع فريقه السياسي على التحكّم بمصيرها وفقاً لمصالحه.
في حسابات «الحزب» أنّ في مجلس الوزراء المقبل كثيراً من الملفات التي ربما تُباعِد في خطوطها العريضة أو تفاصيلها بينه وبين رئيس الجمهورية وفريقه. وهذا أمر حصل في الحكومة المستقيلة. كما يمكن أن يكون لهذه السيطرة دور في استحقاقين آتيَين: القانون الذي سيرعى الانتخابات النيابية المقبلة والانتخابات الرئاسية.
يقال إنّ المعطيات السياسية قد تفرض على «حزب الله» آنذاك أن لا يكون في موقف واحد مع الرئيس وفريقه. وفي أيِّ حال، هو لا يفضّل أن تكون في يد هذا الفريق ورقتان آنذاك: الرئاسة والحكومة وكتلة وازنة في المجلس. وثمّة كثير من السيناريوهات المتعارضة حول خيارات «الحزب» في المعركة الرئاسية المقبلة.
إذاً، وفق هؤلاء، يريد «الحزب» تعطيل «الثلث المعطّل» الذي يسعى إليه عون وفريقه. وهذا السقف لا يمكن أن يتراجع عنه. ولذلك، لا يهمّه أن يأتي الوزير السنّي المنتظر من حصة الحريري، بل يريده من حصة رئيس الجمهورية. ويراهن هؤلاء: إذا أعلن الحريري موافقته على التخلّي عن وزير من حصته (مع أنّ هذا صعب)، فـ»الحزب» سينتقل للمطالبة بتحقيق شروط جديدة لإعادة خلط الأوراق. وعلى الأرجح، حين بلغت العقدة تمثيل «القوات اللبنانية»، انتظر «الحزب» أن ترفض ما هو معروض عليها فتختلط أوراق التأليف رأساً على عقب. لكنّ قبول «القوات» بالعروض دفع «الحزب» إلى أن يكشف عن مطالبه مباشرة.
ومنذ اللحظة الأولى، أدرك عون أنه هو المقصود بالوزير السنّي. ولذلك أطلق موقفه الرافض بقوة، وتناغَم مع الرئيس المكلّف لتشكيل وزنٍ يؤهّلهما معاً أن يتصدّيا للطرح وحفظ المصالح المتبادلة: مصلحة عون في «الثلث المعطّل» ومصلحة الحريري في حصرية تمثيل الطائفة وإبعاد «الشغَب» الذي يمكن أن يتعرض له مِن سُنّة «حزب الله» عن طاولة الحكومة التي يترأسها.
اليوم، يقول المتابعون، يبدو عون أمام التحدّي: إما أن يتنازل عن «وزيره» السنّي لوزير من 8 آذار، فيرتاح «الحزب» وتتألف الحكومة وتنطلق ويبدأ العهد عملياً، مع بداية سنته الثالثة. وإما أن يرفض عون وتبقى الحكومة عالقة إلى أجَلٍ غير محدّد، مع ما يرافق ذلك من جمود للعهد ومخاطر على استقرار البلد، خصوصاً على المستوى الاقتصادي.
وفي رأي البعض أنّ عون يحتاج إلى «الثلث المعطّل» في الحكومة لإقامة «توازن القوة»، بالمعنى الميثاقي، داخل السلطة التنفيذية: فالحريري قادر على إسقاط الحكومة من دون حاجة إلى الثلث المعطّل لأنّ استقالته كرئيس لها تكفي لإسقاطها. والثنائي الشيعي، الذي هو الأقوى واقعياً، يمتلك أيضاً «الفيتو» الميثاقي لأن لا وزراء شيعة من خارجه.
وأما رئيس الجمهورية فلا يمتلك أيّاً من الخيارين، لا السنّي ولا الشيعي. وهو أساساً يعاني أزمة تقليص الصلاحيات في «إتفاق الطائف». ومن هنا يصبح حصوله على «الثلث المعطّل» ضماناً لقدرته على تحقيق التوازن الميثاقي.
هذا المنطق لم يقنع حليف عون الشيعي. وهو اليوم، يضيف المتابعون، يُصرّ على أنّ يتمثَّل السُنّة بوزير يثق فيه «ثقةً عمياء». ويسمّي هؤلاء بعضاً من أعضاء «اللقاء السنّي» الستة، ويقولون إنّ «حزب الله» يفضِّل منهم الذين يشكّلون له ضماناً لا شكّ فيه لأنّ قرارهم عنده، على حساب آخرين في «اللقاء» يمكن أن «يشردوا» إذا ما اقتضت مصالحهم ذلك.
أيّ موقف سيتّخذه عون بعد كلامه الأخير على «أم الصبي»؟ وهل صحيح أنه يحضّر الأجواء ليقدّم التنازل تحت عنوان أنه الأحرص على مصير البلد؟
سيكون صعباً على عون أن يقال عنه إنه رضخ للضغوط. كما أنّ «حزب الله» وعَد الجميع بأنه لن يتراجع، وليس من عادته أن يخلَّ بوعده. ومن هنا يمكن الحديث عن صعوبة التسوية.
ولكن، ثمة مَن يعتقد أنّ صيغة واحدة قد تشكِّل مخرجاً يحفظ ماء الوجه لفريق رئيس الجمهورية وهي أن يتمّ اختيارُ شخصية سنّية من الخط الحليف لعون و»الحزب» معاً، وأن يتوافقا عليها، ولكن، في الاحتساب العادي، تكون من حصة رئيس الجمهورية.
إلّا أنّ «حزب الله» لا يعطي موافقته على تسمية هذه الشخصية إلّا إذا كان يضمن أنها ستنحاز إليه في «اللحظة القاتلة»، أي عندما يحتاج إليها. أي أنّ «الحزب» يمكن أن يوافق على تكرار صيغة «الوزير الملك» عدنان السيد حسين في حكومة الحريري، خلال عهد الرئيس ميشال سليمان. فقد بقي «الملك» يصوّت إلى جانب فريق الرئيس آنذاك إلى أن احتاج إليه «حزب الله» لإسقاط الحكومة، ففعل.
الفارق بين التجربتين هو أنّ الوزير الملك آنذاك كان مطلوباً منه أن يخرج من الحكومة لضمان «الثلث المعطل»، وأما اليوم فقد يكون المطلوب منه أن يخرج من «الثلث المعطّل» لضمان الحكومة. وفي هذه الحال، مصلحة عون أن لا يحتضن «الملك» في عِبِّه. ولكن، لا مشكلة لدى الحريري لأنّ دور «الملك» هذه المرّة ليس إسقاط الحكومة بل منع إسقاطها.
إذا طال كثيراً أمد الأزمة وبدأت سلبياتها تتفاقم إلى حدود الخطر على الاستقرار، فقد يجد الرئيس نفسه مضطراً إلى القبول بتسوية لها وجهٌ ظاهر وآخر باطن، وهي الوحيدة التي يوافق عليها «حزب الله». عندئذٍ، سيبدو لبنان وكأنه في المسلسل المكسيكي حيث «الملك» في الحكومة هو مجرّد وزير ينتظر أداءَ دور محتمل، وحيث «بيّ الكل» هو نفسه «أم الصبي»!
كأنه المسلسل المكسيكي حيث «الملك» مجرّد وزير ينتظر دوراً، و»بيّ الكل» هو نفسه «أم الصبي»!