ليس سهلاً أن يعلن رئيس الجمهورية لدى تناوله موضوع تشكيل الحكومة المتعثر منذ ستة أشهر، أن يعلن أنّ الموضوع بات كبيراً ويوحي أنّ حله غير ممكن إلا بتوفر الحكمة والتضحية مع الشجاعة.
انّ هذا الحديث يؤكد أنّ لبنان في أزمة كبرى، لكن وبموضوعية وواقعية نقول إنّ الأزمة هذه وكما نرى ونفهم لم تولد مع تكليف سعد الحريري بتشكيل الحكومة، بل ولدت حقيقة يوم اعتمدت في الطائف نصوص دستورية وميثاقية غير متكاملة، وتعزّزت تعقيدات الأزمة يوم أجريت التعديلات الدستورية تنفيذاً لاتفاق الطائف وبشكل منقوص واستنسابي، وكانت الفضيحة الأكبر يوم طبّق الطائف استنسابياً أيضاً وفسّر بما يخالف روحه وعطلت منه بالتطبيق أو بالتجاوز البنود الإصلاحية التي يعوّل عليها لبناء دولة حقيقية.
وعليه تكون أزمة لبنان السياسية القائمة اليوم ممتدة في جذورها أقله الى العام 1989 يوم اعتمد اتفاق الطائف حلاً وانقلب الى مأزق تكون على مراحل ثلاث… مرحلة التوافق الأولى ثم مرحلة التعديل الدستوري ثم مرحلة التطبيق الاستنسابي، وكان الوجود السوري في العقد الأول من تطبيق اتفاق الطائف يغطي بشكل أو بآخر على تلك العيوب، التي سرعان ما افتضحت بعد خروج سورية من لبنان في العام 2005 وظهر حال لبنان كما هو الآن في أزمة يصحّ ان تسمّى أزمة نظام قبل أيّ شيء آخر.
نقول أزمة نظام لأنّ لبنان محكوم وملزم بالتحرك تحت سقفين… سقف الدستور وسقف ما يسمّونه الميثاقية، فبمقتضى الدستور يكون على من منح حقاً او صلاحية ان يلتزم حدود الصلاحية والحقوق والواجب دون ان يتعداها، فإذا تعدّى كان نص آخر في الدستور يقدّم العلاج للتعدّي. وفي واقعنا القائم نجد نصوصاً تحدّد الصلاحية ولا نجد أحياناً نصوصاً تعالج التعدّي او التعنّت، وأكبر دليل على هذا صلاحية تشكيل الحكومة حيث أعطى النص الدستوري للرئيس المكلف صلاحية التشكيل بالتنسيق والعمل مع رئيس الجمهورية لكنه لم يضع له سقفاً أو مدة زمنية لذلك، ما مكّنه و في غياب النص الصريح الواضح أن يُخضِع البلاد لمزاجه مع إمكانية احتمال بقاء الدولة أربع سنوات بلا حكومة لأنّ رئيس الحكومة لا يخشى سحب التكليف منه في غياب النص الدستوري، أيّ بكلمة أخرى انّ الواقع الدستوري القائم يفتح لشخص يسمّى الرئيس المكلف الباب أمام عدم الأخذ بنتائج الانتخابات ووضع البلاد أمام خيارين إما الأخذ برأيه أو حرمانها من حكومة تحاكي التركيبة في مجلس النواب المنتخب حديثاً.
أما في الميثاقية فإنها في التفسير اللبناني تعني عدم شرعية أيّ حكومة لا تمثل فيها كلّ الطوائف بصرف النظر عن حجمها وانّ غياب مكوّن طائفي من المكوّنات اللبنانية عن جلسة مجلس الوزراء يفقد القرارات في تلك الجلسة شرعيتها وإلزاميتها، والأدهى من ذلك انسياب الأمر على عمل مجلس النواب حيث يتجه المعنيون الى الطعن أيضاً بشرعية قانون اعتمد في غياب ممثلين عن طائفة ما مهما كان حجمها. هذا في المبدأ أما في التطبيق فإننا نجد الاستنسابية هي الحاكمة حيث يستسهل أحياناً تخطي بعض الطوائف دون ان يرفّ للمتخطي جفن كما حصل في حكومة السنيورة التي حكمت ما يقارب السنتين بغياب الوزراء الشيعة، وكما يحصل دائماً في تشكيل الحكومات مع العلويين والأقليات حيث انهم نادراً ما يمثلون بوزير.
وعليه… وانه في ظلّ النصوص القائمة والتطبيق الكيفي والاستنسابي لها يصحّ ان يوصف النظام اللبناني بالنظام التعطيلي القاصر ذي الفيتوات المتقابلة، نظام يمنع التقدّم والإصلاح ويسير وبكلّ وضوح نحو الانهيار والتدمير الذاتي نتيجة التحجر والفساد المحمي من قبل زعماء الطوائف أصحاب السلطة الأبدية، والذين لا تعني لهم الانتخابات شيئاً سوى التأكيد المتجدّد على زعامتهم وملكيتهم لطوائفهم. ويكفي ان ندلل على خواء هذا النظام وفساده وانقطاع الرجاء منه، ان نشير إلى واقع الكهرباء في لبنان، وهو القطاع الذي أنفق عليه منذ 25 عاماً عشرات المليارات من الدولارات والنتيجة بقاء لبنان بلا كهرباء في حين يقول الخبراء إنّ إنفاق أقل من عشر ما أنفق كان ممكناً أن يضيء لبنان ويجعل القطاع مربحاً وإنتاجياً لصالح الدولة.
انّ تعثر تشكيل الحكومة اليوم فضح نظام الطائف وجاء نتيجة حتمية لأحكام قاصرة غير متكاملة ولسلوك استتاري شخصاني لا تحدّه النصوص، وكانت النتيجة ما نحن عليه من لأفق مسدود حيث يظهر كلّ مسؤول يحيل الأزمة ويطلب الحل من الآخر، ما وضع لبنان بموضوعية ودقة أمام أزمة نظام وبات عليه أن يختار واحداً من خيارين… خيار الاستسلام للواقع والاتجاه نحو الانهيار الذي لا مفرّ منه كما باتت التحذيرات تأتي من كلّ حدب وصوب وكان آخرها تحذير من الفاتيكان، أو خيار الإصلاح وبناء نظام متماسك يأخذ بقواعد الديمقراطية الحقيقية مع مراعاة حقوق الطوائف وجودياً دون أن يمنحها الحق في تعطيل سير الدولة. وهنا يكمن التحدّي، فهل سيجد لبنان فيه من يملك الشجاعة ليصلح نظامه ويمنع الانهيار او ينتظر الخارج ليعالج له أمره باعتباره كائناً مريضاً عاجزاً عن إدارة شأنه بنفسه؟
حتى نمنع التدخل الخارجي بشأننا وننقذ وطننا علينا أن نبادر الى إصلاح النظام وتحديثه وحلّ مشكلاته ومعالجة ما تنتجه النصوص النافذة من مآزق وهو أمر ممكن عن طريقين… الأول وهو الأجدى ويتمثل بالتقاء اللبنانيين في مؤتمر تأسيسي يبحث عن نظام يناسب لبنان ويحفظ مكوناته والأهمّ فيها مكون المواطنية وحقوق المواطن وحق الوطن في الوجود والتطور، أو الانطلاق من المؤسسات الدستورية القائمة وتطويرها عبر تصحيح الأعراف أو إكمال النصوص وأهمّ ما في الأمر هنا إقامة النظام الديمقراطي الصحيح الذي ينبثق عن مجلس نواب وطني، يقوم الى جانبه مجلس شيوخ تكون مهمته المحافظة على الكيان ككلّ وعلى كيان الطوائف في وجودها وحقوقها، والتخلص من بدعة الديمقراطية التوافقية التي لا وجود لها في النظم الدستورية في القانون المقارن ولا في الأعراف الدستورية في كلّ المعمورة. وعليه فإننا نطرح خطة عمل للإنقاذ كالتالي:
ـ تشكيل حكومة تعكس الصورة القائمة في مجلس النواب وتراعي أحكام الكتل والطوائف جميعاً دون ان يكون في الأمر إلغاء او استئثار.
ـ الدعوة الى مؤتمر تأسيسي يعيد مراجعة الدستور لإقامة حكم المؤسسات الوطنية بعيداً عن المحاصصات الطائفية.
ـ اعتماد مبدأ المواطنية في الحقوق والواجبات مع مراعاة مؤقتة للهواجس الوجودية للطوائف.
ـ التوقف الفوري وعلى كلّ الصعد عن الحديث والشحن الطائفي والغرائزي والعمل على إنتاج بيئة الإصلاح الوطني التي تمكن من اعتماد نظام سياسي وطني غير طائفي.
وفي هذا الإطار وتسهيلاً للانطلاق نذكّر بأنّ عدم النص الدستوري على مهلة للرئيس المكلف الذي يتذرّع به رئيس الحكومة المكلف اليوم ويجعله مطمئن البال لاستهلاك أيّ مدة يريد حتى ولو استهلك الأمر الأربع سنوات هي عمر المجلس النيابي انّ هذا الفهم للدستور في غير محله، ولا يمكن ان يكون مقبولاً مطلقاً حتى في أنظمة الحكم المطلق فهناك ما يعرف بـ «المهلة المعقولة» التي يجب ان تحترم واعتقد انّ هذه المهلة تمّ تجاوزها حتى اليوم، فليبادر أصحاب الشأن لأنّ الوطن اليوم في وضع لا يمكنه من الانتظار أكثر.