عادت قصة المساعدات العسكرية من روسيا الى الجيش اللبناني بالظهور من جديد، بعد فترة غير قصيرة من الغياب عن الساحة المحليّة. وعلى غرار العديد من المواضيع والامور في لبنان، لم تحتج المسألة الى الكثير من الجهد لتطفو على سطح المشاكل اللبنانيّة المتخم اصلاً بالقضايا السياسية المتداخلة والمزمنة. من المؤكد ان المشكلة ستختفي مجدداً كما حصل في السابق، من دون انذار، ولكن الوضع الحالي والردود الرسميّة وغير الرسميّة تجعل من مسألة المساعدات العسكريّة الروسيّة للبنان مادة دسمة يمكن التوقف عندها.
لا يمكن للمسائل في لبنان ان تكون مجرّد ابيض او اسود، فاللون الرمادي هو الذي يطغى على كل المواضيع، وفيما خص العلاقة مع روسيا، فإنها تتمحور بين الصديق والعدوّ عندما تدعو الحاجة. ففي حين، تكون موسكو بالنسبة الى بيروت اقرب من واشنطن وباريس، وفي اوقات اخرى تصبح المسافة مماثلة لطهران او ربما لبيونغ يانغ.
استعمل لبنان روسيا في السابق كمحاولة للخروج من الطوق الاميركي-الغربي الذي فُرض عليه في ما خص الاسلحة، وفيما لم يكن هناك سوى طهران كملجأ اخير للحصول على السلاح دون دفع اموال طائلة، تغيّرت المعطيات بشكل فجائي ودخلت اميركا وبريطانيا وغيرها من الدول على الخط، واعادت الحركة الى عجلة السلاح.
تغنّى لبنان خلال عهد الرئيس السابق ميشال سليمان بأنه سيخرق الحظر على نوعيّة السلاح المقدم للجيش، وذهب الى حّد التبجح بحصوله على طائرات جويّة نفّاثة، ما لبث ان كان مصيرها مجهولاً بعد ان تحول الطلب الى طائرات مروحيّة هجوميّة قبل ان تضيع المبادرة وتغرق في الرمال السياسيّة المتحركة. اليوم، يكاد التاريخ يعيد نفسه، مع فارق مهم، وهو ان روسيا باتت على الابواب اللبنانية، ولم تعد تقبل ان يتم النظر اليها على انها "عدو" او دولة يحظّر التعاطي معها، فهي تمسك بأوراق كثيرة تجعلها لاعباً اساسياً في المنطقة وخارجها.
ارسلت موسكو اكثر من إشارة الى لبنان وعبره الى الدول المعنيّة به، بأنها قادرة على الدخول في اللعبة نفسها وان "تفرض" اموراً على هذا البلد الصغير بمساحته الجغرافية، عبر "غض النظر" عن بعض الممارسات التي تسيء اليه ان في ما خص مجاله الجوي، او الاعتداء عليه تحت ذرائع مختلفة، وقد تلقف لبنان هذه الرسالة بشكل كامل، وعمد الى التعاطي معها وفق ما تقتضيه الاوضاع، فحصل على "التصريحات" اللازمة للابقاء على العلاقة مع الروس بشكل يطمئنهم من جهة، ولا يثير غضب الولايات المتحدة والغرب من جهة ثانية. ليست المشكلة في السلاح ونوعه، فالـ"فيتو" الموضوع على لائحة الاسلحة المحظور على الجيش اللبناني الحصول عليها، هي موضع اجماع خارجي شامل، وليست روسيا بوارد الخروج عن هذا الاجماع بأي حال من الاحوال، ولكن المشكلة تكمن في المصدر، فـ"ممول" السلاح للجيش، ولو انه لا يتحكم بقراره السياسي، الا انه يصبح قادراً على التحكم بعتاده الذي يحتاج الى الصيانة وقطع الغيار وغيرها كي يكون السلاح فاعلاً. وفيما كانت الهبة السعودية السابقة -التي ذهبت ادراج الرياح- والبالغة قيمتها 3 مليارات دولار قد حطّت قبل اختفائها في فرنسا، فإنّ المساعدات التي أقرّت للجيش في مؤتمر روما والمؤتمرات الدوليّة كانت محصورة، وتركزت على تحويل الجيش اللبناني الى "قوات ردع" لمواجهة الارهابيين فقط، وليس الى "قوات حماية" قادرة على الدفاع عن لبنان ضد أيّ جيش يحاول الاعتداء على الوطن.
قد لا تكون روسيا حاضرة عسكرياً في لبنان، ولكن الوضع مغاير تماماً في سوريا، حيث تتواجد بقوة على الساحة الميدانية في الشقّين السياسي والعسكري، وهي لا تعتبر نفسها معنيّة بتوريد السلاح الى لبنان ام لا، طالما انها مطمئنة الى عدم السماح بتحول لبنان الى مصدر قلق لها في سوريا، وبالتالي فإنّ الثقة لن تكون عبر السلاح بل عبر الضمانات الاجنبيّة بعدم استعمال الورقة اللبنانيّة لزعزعة المخططات الروسيّة في المنطقة، وهو أمر يبدو أنّ الجميع متفق عليه في الوقت الراهن.
وعليه، فإن قصّة المساعدات الروسيّة للبنان انضمّت الى قافلة القصص التي تحمل مغزى قصة "ابريق الزيت".