لم يكن اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول سوى محطة تأسيسية جديدة في مسار العلاقة الهشّة بين الرياض وأنقرة. في الشكل، تمارس قيادتا البلدين حفلة تكاذب عنوانها «حرص المملكة على علاقاتها بشقيقتها تركيا» و«تثمين الرئيس التركي للعلاقات الأخوية التاريخية المتميزة والوثيقة بين البلدين والشعبين» (اتصال بين الملك سلمان والرئيس رجب طيب أردوغان بعد جريمة خاشقجي بأيام). بقاء «خيط» في العلاقة بين الطرفين أساسه تهرّبهما من تداعيات الطلاق على مناطق نفوذهما، وعلى تخوّف من أضرار اقتصادية، وطبعاً «حاجة» واشنطن لعدم تشظّي حلفائها/ وكلائها في المنطقة. أردوغان الجالس على «عرشه» في قصر شنقايا مهجوس بالدور السعودي ــ الإماراتي في محاولة الانقلاب الفاشلة في حزيران 2016. ثم تعود به الذاكرة إلى دور «المحمدين» (ابن زايد وابن سلمان) في تصفير مكاسب «الربيع العربي» التي استحالت ــ بالنسبة إلى حاكم أنقرة ــ إلى ربيع تركيّ في تونس ومصر، وشتاء يتحكّم بعواصفه في سوريا.
قبل نحو عام، كان الخلاف محوره الأزمة الخليجية بعد مقاطعة «الرباعي» (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر) لقطر، أما خلف الكواليس فكانت سوريا والعراق ساحتا تصفية حسابات.
«الأخبار» حصلت على ثلاث وثائق دبلوماسية أردنية تشرح على لسان دبلوماسيين سعوديين وأردنيين مآل العلاقات السعودية ــ التركية، وحدود الكباش بينهما. في واحدة منها، مثلاً، تظهر مساعي السعودية في «زرع خنجر في الخاصرة التركية» عبر دعم استفتاء استقلال «إقليم كردستان» في العراق (أيلول 2017)، واستخدام «الورقة الكردية» لمقايضة تركيا على علاقتها مع قطر و«تحديداً القاعدة العسكرية فيها». كذلك، تكشف الوثائق «تحوّلاً في الموقف» السعودي تجاه الملف السوري، شاهِده زيارة الوزير ثامر السبهان «ذي الخلفية الأمنية البحتة» لريف الرقة، وتوجيه «رسالة بليغة إلى تركيا بأن التحالفات في طريقها إلى التغيّر». تحوّلات لم تمنع الرياض، حينها، من مفاتحة الرئيس فلاديمير بوتين بطلب «مساحة كافية للعب دور على الأرض السورية».
داخلياً، يعرض تقرير من السفير الأردني في أنقرة موقف تركيا من تصريحات محمد بن سلمان عن «الضلع الثالث لمحور الشر، الإخوان المسلمين» (نيسان 2018). ويوضح السفير أن أردوغان الذي يقف على أعتاب انتخابات رئاسية فاصلة (حزيران 2018)، يُدرك «أهمية خلع عباءة الإخوان المسلمين خلال هذه الأيام»، مقابل «دغدغة المشاعر القومية التركية التي تمثل بوصلة الناخب».
تقرير من القائم بأعمال السفارة الأردنية في أنقرة سنان راكان المجالي إلى وزارة الخارجية الأردنية بتاريخ 27/9/2017
الموضوع: لقاء مع السفير السعودي في أنقرة.
التقيت ظهر يوم الثلاثاء 26/9/2017 بسعادة وليد بن عبد الكريم الخريجي سفير المملكة العربية السعودية المعتمد في أنقرة، حيث تم التطرق لعدد من الموضوعات المتعلقة بالساحة التركية:
أكد السفير السعودي بأن علاقات المملكة مع تركيا تأثرت سلباً بسبب الموقف التركي المنحاز لقطر، معتبراً أن أساس العلاقة بين كل من قطر والسعودية قائم على المصالح الشخصية وليس على المصالح العامة لكلا البلدين، الأمر الذي يتحتم معه استحالة استمرار هذه العلاقة، جازماً بأن تركيا ستتخلى عن قطر في نهاية المطاف. ونوّه السفير إلى أن زيارة أمير قطر الأخيرة إلى تركيا لم تحظ باهتمام كبير من الجانب التركي حيث شهدت تعتيماً إعلامياً مبالغاً به كما أن بعض الصور التي تم توزيعها للإعلام أظهرت أردوغان وإلى جانبه أمير قطر وعلى الجانب الآخر وزير الطاقة (زوج ابنة أردوغان) الأمر الذي ينتهك أبسط قواعد البروتوكول. وفي ما يتعلق بقيام أمير قطر بدور الوسيط بين تركيا وألمانيا من خلال الزيارة التي قام بها إلى ألمانيا لدى مغادرته أنقرة مباشرة، أكد السفير السعودي بأن قطر أصغر من أن تقوم بمثل هكذا دور.
تطرّق السفير السعودي إلى التسريبات الإعلامية التي تتحدث عن قيام السعودية بالعمل على تحريض مسعود البرزاني على المضي في فكرة الاستفتاء بهدف زرع خنجر في الخاصرة التركية، وذلك كرد فعل سعودي على قيام تركيا بزراعة خنجر في الخاصرة السعودية من خلال القاعدة العسكرية في قطر، ولم ينف السفير التسريبات بأن السعودية تسعى إلى استخدام الورقة الكردية في مسعى لمقايضة تركيا على علاقتها مع قطر وتحديداً القاعدة العسكرية فيها.
أشار السفير السعودي إلى أن تركيا وفي سبيل أن تتجنب مضي قطار التسوية في سورية من دون أن تكون أحد أطرافها، سعت إلى الالتحاق بتلك التسوية بغض النظر عن المظلة المتاحة لذلك، وقد وجدت ضالتها من خلال اجتماعات أستانا بغض النظر عن مقدار المكتسبات التي ستحققها.
■ ■ ■
تقرير من السفير الأردني في الرياض علي الكايد إلى وزارة الخارجية الأردنية بتاريخ 2/11/2017
الموضوع: التحركات السعودية في سوريا والخلاف مع تركيا
في ضوء متابعتي للتحركات السعودية على الساحة السورية في الفترة الأخيرة، ومن خلال اتصالاتي مع السفراء هنا وبعض المطلعين والمتابعين بهذا الشأن، أرجو أن أضع بين أيديكم بعضاً من الاستنتاجات المبنية على قراءة الواقع هنا:
هناك تحول في الموقف السعودي تجاه الملف السوري، شاهِده زيارة الوزير ثامر السبهان المعني بشؤون الخليج العربي، ذو الخلفية الأمنية البحتة، إلى مدينة عين عيسى في الريف الشمالي لمحافظة الرقة السورية، إلى جانب منسق التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب بريت ماكغورك، حيث حملت الزيارة عدة مقاصد ومعانٍ منها سعي السعودية إلى التأكيد على تثبيت مناطق التهدئة ومناطق النفوذ، وتوجيه رسالة بليغة إلى تركيا بأن التحالفات في طريقها إلى التغيّر، خاصة أن قوات سورية الديموقراطية «قسد» تعد العدو الأول لتركيا داخل سوريا، والتي التقى الوزير السبهان قيادات تنفيذية تابعة لهذه القوات المدعومة أميركياً ولكونها تحقق نوعاً من التوازن.
خلع عباءة «الإخوان» خلال الانتخابات و«دغدغة» المشاعر القومية، منعتا أردوغان من الرد على تصريحات ابن سلمان
وبحسب الزملاء هنا، فإن السعودية التي تدرك أن روسيا هي الطرف الأقدر على حلّ الصراع في سوريا، قد لا يكون لديها إشكالية في بقاء النظام السوري، ولكن الإعلان عن ذلك مرتبط بمدى العلاقة السورية والدعم الإيراني من خلفها.
ولا أستبعد أن يكون من موضوعات البحث خلال زيارة الملك سلمان إلى روسيا طلب التدخل لاحتواء التأثير الإيراني في الساحة السورية، والحد من التدخل التركي في سوريا، أو على الأقل منح مساحة كافية للسعودية للعب دور على الأرض السورية حيث منطقة النفوذ التركي من دون إزعاج إيراني.
وخلال الحديث مع بعض الأصدقاء من المسؤولين السعوديين، اتضح لي أن السعودية تبحث عن دور جديد لها في سوريا يكون أقوى من السابق، وجاءت زيارة السبهان في سياق إرسال رسائل باتجاهات متعددة منها إلى أنقرة ومنها إلى إيران (خاصة بعد لقائه قادة أكراداً عسكريين في «حزب الاتحاد الكردي» الذي يعتبر ذراعاً مسلحاً لحزب العمال الكردستاني المصنف تركياً تنظيماً إرهابياً)، ومنها رسائل إلى روسيا مفادها طلب تسلم أسرى سعوديين من داعش، يرجح أن عددهم يقارب الـ30. والنتيجة أن السعودية عادت إلى سوريا، وعلى الصعيد الدولي، ظهور السبهان مع الجنرال ماكغورك في الرقة يعد تأييداً سعودياً واضحاً لتطبيق الاستراتيجية الأميركية الجديدة ضد تركيا وتدخلاتها في المنطقة من قبل قبائل عربية سنية حليفة للمملكة في مناطق الرقة ودير الزور، حيث تفترض أن تلك المناطق مناطق نفوذ حيوية طبيعية وجغرافية بالنسبة لها.
■ ■ ■
تقرير من السفير الأردني في أنقرة إسماعيل الرفاعي إلى وزارة الخارجية الأردنية بتاريخ 4/4/2018
الموضوع: موقف تركيا من تصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حول ما أسماه بثالوث الشرّ.
التزم الجانب التركي الصمت الغاضب حيال تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مؤخراً لمجلة (The Atlantic) الأميركية بخصوص ما أسماه «محور الشر». فلم يصدر لتاريخه أي رد فعل رسمي تركي على التصريحات التي أكد من خلالها ولي العهد السعودي بأن الضلع الثالث لمحور الشر هو تنظيم الإخوان المسلمين، حيث لم يذكر تركيا بالاسم على اعتبار أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا طرح نفسه كمرجعية لتنظيم الإخوان المسلمين حول العالم.
وقد بدا لافتاً الصمت التركي حيال تلك التصريحات بخلاف ما اعتادت عليه القيادة التركية في الرد على أي تصريحات تمسها، وقد تباينت الآراء حول الأسباب التي تقف وراء الخصوصية التي تتعامل بها تركيا مع السعودية بهذا الشأن. ففي الوقت الذي ذهب به البعض إلى أن تركيا التي باتت اليوم في مواجهة أكثر من جبهة على الصعيد الدولي والإقليمي، لن تكون في وارد فتح جبهة جديدة مع السعودية، وهي بذلك تسعى إلى احتواء تلك التصريحات، إلا أن هذا الرأي لا يتوافق مع واقع الحال حيث سبق لتركيا أن ردت بعنف على تصريحات وزير الخارجية الإماراتي على رغم أن تصريحاته لم تمس القيادة التركية الحالية بل مست أحد القيادات العثمانية لحقبة زمنية بعيدة.
تحريض البرزاني على الاستفتاء بهدف زرع خنجر في الخاصرة التركية (أ ف ب)
أما الحديث عن أن تركيا تسعى في هذه الأيام إلى الالتزام بسياسة المهادنة مع كافة الأطراف (بما في ذلك السعودية) خاصة في ظل التغيرات التي شهدتها الإدارة الأميركية مؤخراً، وفي ظل الخلافات مع الاتحاد الأوروبي وفي ظل انخراط الجيش التركي في حرب مباشرة في الشمال السوري، كل هذه الظروف وغيرها تفرض على تركيا أن تلتزم سياسة المهادنة والصمت خلال هذه الفترة رغم الاستياء الشديد من التحركات السعودية في سوريا واستغلال الرياض للورقة الكردية ضدها.
يبدو أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يرزح خلال هذه الفترة تحت ضغوطات نتائج الاستفتاء الأخير والتي بالكاد استطاع تحصيل ما يفوق نسبة 50% بقليل، الأمر الذي دفعه في الآونة الأخيرة إلى اللعب على وتر القومية التركية لتدارك أي مفاجآت في الانتخابات المقبلة، وعليه فإن أردوغان يدرك تماماً أهمية خلع عباءة الإخوان المسلمين خلال هذه الأيام، وطرح نفسه كرئيس لكافة مكونات المجتمع التركي مع التركيز على «دغدغة» المشاعر القومية التركية التي تمثل بوصلة الناخب التركي، وهو بذلك يسعى وعلى ما يبدو إلى تفويت الفرصة على خصومه (والسعودية منهم) ممن يبذلون جهوداً كبيرة لوصم أردوغان بصفته الساعي إلى (أخونة) النظام التركي، على أمل أن تؤدي تلك الجهود إلى التأثير على مزاج الناخب التركي. عليه، فإن أردوغان يدرك على ما يبدو بأن رده على تصريحات ولي العهد السعودي قد تؤكد فكرة أن تركيا باتت الحاضنة للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
وقد تكون الحرب التي تشنها تركيا في الشمال السوري أحد المؤشرات التي تدعم فكرة سعي أردوغان مؤخراً للعب على وتر القومية التركية، باعتبار أن قيام كيان كردي يعتبر من الخطوط الحمراء التي تتناقض مع فكرة القومية التركية، وتستفز الناخب التركي بشكل كبير، وهذا ما يسعى أردوغان على ما يبدو إلى استثماره جيداً، ويمكن بهذا الصدد الإشارة إلى ردة فعل أردوغان الحادة بداية هذا الأسبوع على تصريحات الرئيس الفرنسي الداعية إلى مفاوضات مع الأكراد حول منبج. تلك التصريحات للرئيس أردوغان تم التعاطي معها من قبل العديد من الأطراف على أنها موجهة للداخل التركي، أكثر من أنها موجهة للرئيس الفرنسي.
إن أردوغان الذي يعمل بجد للتحضير للانتخابات المقبلة يرى تماماً أهمية العامل الاقتصادي فيها وبذلك فهو يسعى على ما يبدو إلى الإبقاء على (شعرة معاوية) مع الجانب السعودي، ويتجنب الانجرار وراء الاستفزازات السعودية، من خلال الرد على تصريحات ولي العهد لمنع وقوع القطيعة مع السعودية بشكل نهائي، ما قد يؤدي بالسعودية إلى اتخاذ قرارات اقتصادية ضد تركيا، وسيكون لها الأثر الكبير على مجريات الانتخابات التركية، خاصة وأن العامل الاقتصادي طالما لعب دوراً حاسماً في الانتخابات التركية (مع الإشارة في هذا الصدد إلى أن السعودية سبق وأن اتخذت قرارات اقتصادية ضد لبنان على سبيل المثال أدت إلى سحب الاستثمارات السعودية ومنع السائح السعودي من السفر للبنان وغيرها من الإجراءات). هذا مع الأخذ بعين الاعتبار بأن حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية بلغ العام الماضي 4.85 مليار دولار أميركي. وبحسب نائب رئيس الوزراء التركي خلال منتدى جدة الاقتصادي فإن حجم الاستثمارات السعودية في تركيا في العام 2016 بلغ 11 مليار دولار من خلال 800 شركة سعودية، أما عدد السياح السعوديين لتركيا العام 2017 فقد بلغ 690 ألف سائح.