منذ أكثر من عام، يخوض العدو الإسرائيلي حرباً فيها الكثير من الضجيج في الغرف المغلقة، والكثير من الصمت الأمني. قبل ظهور بنيامين نتنياهو، في أيلول الماضي، على منبر الأمم المتحدة حاملاً صوراً جوية لما زعم أنه مصانع أو مخازن صواريخ قرب مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، كان رجال استخباراته وديبلوماسيته يجوبون العالم، ويُكثرون من الصراخ، للحديث عن الأمر نفسه. قبله بأشهر، كان مسؤولون أميركيون يستقبلون الديبلوماسي النشيط غابي عيسى (سفيرنا في واشنطن)، ليحذروا من الصواريخ الدقيقة... ومن الأنفاق! نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، دايفيد ساترفيلد، يزور لبنان في شباط الماضي، بذريعة البحث عن حل لـ«الخلاف الحدودي بين لبنان وإسرائيل». تعمّد أن يعرّج على اليرزة، حيث التقى قائد الجيش العماد جوزاف عون، وناقش معه أمر الصواريخ. مسؤولون في أجهزة استخبارات غربية يجولون على مسؤولين لبنانيين، وعلى جداول أعمالهم بند وحيد: قدرات المقاومة الصاروخية، ذات الدقة العالية. الموفد الرئاسي الفرنسي، أوريليان لو شوفالييه، أتى إلى بيروت من تل أبيب، مطلع تشرين الثاني الماضي، ناقلاً تهديداً إسرائيلياً. قبله بنحو أربعة أشهر، بلغت الوقاحة برئيس محطة استخبارات أوروبية في بيروت أن طلب موعداً عاجلاً من مرجع أمني، قائلاً له: أبلغَنا الإسرائيليون أن عمليات نقل للصواريخ تتم الليلة في المنطقة الفلانية، وعليك أن تبلغ رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة لاتخاذ الخطوات المناسبة لمنعها، وإلا فإن إسرائيل ستتصرّف!
طبعاً، العدو لم يتصرّف. لكن الرؤساء الثلاثة، ومعهم فرق عملهم، ووزير الخارجية جبران باسيل، وقائد الجيش والمدير العام للأمن العام، تصرفوا بمسؤولية. الكلام هنا ليس من باب المديح. لكنهم كانوا يدركون ما يرمي إليه العدو. قدرات المقاومة تردعه عن مباشرة الحرب على لبنان. وإزاء ذلك، لم يجد سبيلاً إلى دفع حزب الله نحو الحالة الدفاعية، سوى أمرين: تحويل قضية صواريخ المقاومة، وبخاصة الدقيقة منها، إلى قضية رأي عام لبناني، والسعي إلى مضاعفة الضغط الأمني (الذي يظنّ أنه غير مرئي) على المقاومة. المسؤولون اللبنانيون، كانوا، في هذه القضية تحديداً، مسؤولين فعلاً. لم ينجرّوا إلى حيث يريد رئيس وزراء العدو الذي عبّر أمس عن «غضبه» لأن لبنان الرسمي لم يستجب له.
لكن نتنياهو لم يخرج من لبنان خالي الوفاض. ثمة من تبرّع أمس للاستجابة لطلبه. يطلب العدو تحويل تهديداته إلى حدث لبناني داخلي، فيفتعل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع مقابلة مع موقع حزبه الإلكتروني، ليقول الآتي: «إذا كان تقرير (اليونيفيل) يشير إلى وجود أنفاق، فعلى الحكومة أن تطلب رسمياً من حزب الله التوقف عن أي أعمال من شأنها أن تشكل خطراً على لبنان واللبنانيين، وإعادة تذكيره بأن القرارات العسكرية والأمنية منوطة حصراً بالحكومة اللبنانية».
إيهود باراك، الرئيس السابق لحكومة العدو، ارتاب من توقيت «الكشف» عن نفق مزعوم قبالة كفركلا الجنوبية، قائلاً إن جيش الاحتلال يعلم بوجوده منذ سنتين. أما جعجع، فيرى في حفر نفق، عملاً يشكل خطراً على لبنان واللبنانيين. لا داعي لتذكير القائد السابق للميليشيات التي شكّلت رأس حربة العدو في بلادنا، بآلاف الخروقات الإسرائيلية للسيادة اللبنانية. ولا طائل من القول له إن احتساب عدد ساعات اختراق الطائرات المعادية لمجالنا الجوي، على مدى أربع أشهر، يُظهر أن سماءنا كانت مستباحة ما مجموعه نحو 85 يوماً بليلها ونهارها. وبالطبع، لا نتيجة تُرتجى من تذكيره بأن جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الذي يعرفه جعجع جيداً، كما الموساد، يخترق كل ما وصل إليه مشغلوه وفنيوه، من مؤسسات رسمية وخاصة... لا داعي لمطالبة جعجع بالغضب لأن حلفاءه السابقين يمارسون يومياً «أعمالاً تشكل خطراً على لبنان واللبنانيين». كل ما ينبغي قوله له هو أن «القرارات العسكرية والأمنية» لن تكون يوماً، خاضعة له ولأمثاله من الذين يستجيبون لمطالب العدو، عن جهل، أو عن سابق معرفة وتصميم.