عند الحديث عن الفساد في لبنان لمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد، والذي يصادف يوم الاحد في 9 كانون الأوّل، يقع الكاتب في حيرة من أمره. أين يبدأ، وإن بدأ كيف سينتهي، فكلما طرق باب ملف وجد فيه فسادا، بحيث اصبحت الادارات والوزارات والمؤسسات العامة مرتعا للفاسدين الذي ينهبون المواطن والدولة والخيرات منذ سنوات حتى اليوم، مما جعل لبنان يحتل المرتبة 143 على صعيد العالم على مستوى الفساد فيه.
في شهر شباط الماضي أصدرت منظمة الشفافيّة الدولية مؤشر مدركات الفساد الذي يكشف عن فشل غالبيّة الدول بمهمّة محاربة الفساد. يتولّى المؤشّر تصنيف 180 بلدا وإقليما وفقا لمدركات انتشار الفساد في قطاعها العام، استنادا إلى آراء الخبراء والمسؤولين في مجال الأعمال، وذلك حسب مقياس يتراوح بين 0 و100 نقطة، حيث تمثل النقطة الصفر البلدان الأكثر فسادا في حين تمثل النقطة 100 البلدان الأكثر نزاهة. وتوصّل المؤشر هذه السنة إلى أنّ أكثر من ثلثي البلدان قد حصلت على درجة تقل عن 50 نقطة، حيث أنّ معدل الدرجات بلغ 43 نقطة.
لبنان حلّ بالمرتبة 143 من بين 180 دولة، ليتراجع بدل التقدم، فبعد أن كان في المركز 128 عالميا من أصل 176 دولة عام 2012، وفي المرتبة 136 بين 177 دولة عام 2014، وبالمرتبة 136 عالميا من أصل 176 دولة عام 2016، ها هو اليوم يصبح بالمرتبة 143 من أصل 180 دولة، ما يعني فشل الدولة اللبنانيّة بتحقيق أي تقدّم على مستوى مكافحة الفساد.
لا تزال أحوال لبنان تتدهور، فما من شيئ خلق بصيص أمل، ولا القضاء وأجهزة المراقبة تمكنوا من ذلك.
في هذا التقرير سوف نحاول الإضاءة على باب واحد من ابواب الفساد وكيفيّة إغلاقه بسهولة اذا ما توافرت الإرادات والنيّات، مستخدمين دراسة أعدّتها الشركة "الدوليّة للمعلومات" عن كلفة الإيجارات التي تدفعها سنويا الدولة اللبنانيّة، مقابل إهمال مشروع بناء الأبنية الحكوميّة على عقارات تملكها الدولة، والسبب بحسب الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين وجود إرادة سياسيّة بعدم تشييد ابنية حكوميّة، لان معظمها خصوصا تلك المستأجرة بعد العام 1993 تابعة لمراجع سياسيّة ولهم مصلحة بأن تبقى العقود قائمة.
"تدفع الحكومة اللبنانية سنوياً نحو 200-220 مليار ليرة كبدل إيجار للأبنية والعقارات التي تشغلها المؤسسات الحكومية من وزارات ومدارس والجامعة اللبنانية ومؤسسات عامة أخرى، أبرزها على سبيل المثال لا الحصر مبنى "الإسكوا" وسط بيروت والذي كلّف الدولة منذ تاريخ استئجاره عام 1997، حوالي 170 مليون دولار أميركي، اذ تصل كلفة الإيجار السنوي اليوم الى 10 مليون دولار". يشير شمس الدين الى أن المصيبة الكبرى هي بوجود عقارات تابعة للدولة اللبنانيّة في بيروت يصل عددها لنحو 225 عقارا، مبنيّة وغير مبنيّة، يمكن الاستفادة منها.
ويضيف، "تم رصد إعتماد بقيمة 750 مليار ليرة لتشييد أو شراء أبنية في بيروت وسائر مراكز المحافظات والأقضية، تخصص لأشغالها من قبل كافة الإدارات العامة وتكون قادرة على إستيعاب أعمال تلك الإدارات لغاية العام 2050، على أن يصرف هذا المبلغ على عدة سنوات، الا أن هذا المشروع لم يبصر النور بعد"، مشيرا الى أن أغلب المقرّات التي تُستأجر حديثا يكون مركزها وسط بيروت.
ويكشف شمس الدين أن بعض العقارات التي تملكها الدولة ضخمة جدا، منها على سبيل المثال "العقار رقم 356 في منطقة المدوّر اتجاه إطفائيّة بيروت ومساحته 25 ألف متر مربع، العقار رقم 3016 منطقة الشياح-بئر حسن وتم تشييد عدّة أبنية عليه منها مبنى وزارة الصحة العامة، سفارتي قطر والإمارات العربيّة المتحدة، مؤسسة أوجيرو، مبنى الأونروا، وبقيت مساحة 17 ألف متر بتصرف النقل المشترك يمكن استخدامها لتشييد عدّة أبنية، العقار رقم 3582 منطقة الأشرفيّة ومساحته 163,689 متر مربع وهو شاغر حالياً وبتصرف مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك، ويمكن أيضاً تشييد عدة أبنية عليه، 25 الف متر مربع في ساحة العبد قرب العدليّة، 163 الف متر مربع بمنطقة مار مخايل، 25 الف متر مربع في منطقة سن الفيل.
سئل أحد المسؤولين سابقا عن سبب هذا الهدر، فقال أن الدولة تدفع يوميا حوالي 13 مليون دولار خدمة للدين العام، فعندها لن يضرّها أن تدفع 200 مليار ليرة سنويا بدل إيجارات. هذه هي العقليّة التي تحكم لبنان، وبدل أن تبني الدولة منشآتها الخاصة بنفس كلفة الإيجار لثلاث سنوات وتوفر على الخزينة ما لا يقل عن 300 مليار ليرة سنويا، ها هي تبحث عن وسيلة لاقتطاع حقوق الموظفين بسلسلة الرتب والرواتب. فعلا إنه بلد "الغرابة والفرادة".