سألت ضابطاً في المقاومة الإسلامية: هل ضعف عدوّنا الى هذه الدرجة؟ أجابني: لا لم يضعف، لكن الواقف قبالته صار قوياً!
السؤال فرضته إجراءات العدو القائمة منذ اسبوع، تحت عنوان «درع الشمال». والمسألة، هنا، ليست التنمّر على عدو قوي وحاقد، حقق نقطة استخباراتية في كشف ما اعلن عنه، لكنها تكمن في المتغيرات الجوهرية التي طرأت على معركة تقترب من مفترق اساسي في سياق مشروع ازالة اسرائيل من الوجود. وكل ما علينا، ليس التحديق إلى صورة اسرائيل التي عرفناها قوية جداً، بل التركيز على الثقب الكبير في روحها، حيث باتت خطواتها العملانية، عسكرياً وأمنياً وإعلامياً ودبلوماسياً، تشبه بعض العرب في زمن الهزيمة الذي أفل الى غير رجعة.
منذ توقف العمليات العسكرية في 14 آب 2006، واسرائيل تعاين، يومياً، استثماراً غير مسبوق من جانب حزب الله لنصره الكبير. والاستثمار بالنسبة الى الجهات الحرفية في تل ابيب، لا يتعلق بموجة التعاطف والتأييد الشعبي له، ولا في تقدمه سياسياً داخل لبنان، بل في كيفية انتقاله، مرة واحدة، من هيكل القوة المنظّمة التي تقوم عقيدتها على الدفاع وافشال خطط العدو، الى هيكل القوة المنظّمة والقوية أكثر، والتي تضم عقيدتها بند القتال الهجومي، ونقل المعركة الى ارض العدو. وخلال السنوات الـ12 الماضية، كان العدو يقوم بكل ما يقدر عليه، لمنع تراكم القوة لدى المقاومة. لكن يأسه من تحقيق الهدف، جعله يعمل على توظيف قدرات غيره في معارك مختلفة مع المقاومة. ومع كل استحقاق، كان العدو يعود ليدرك ان مشكلته لا تعالج بواسطة الغير. وها هي حرب سوريا وأزمات العراق واليمن، وكل مشاكل لبنان الداخلية، لم تأت للعدو بما يأمله، بل على العكس، صار لزاماً عليه التعامل بنفسه مع قوة، يقول هو، إنها اقرب الى جيش يملك القدرة على الصمود والإيلام.
لسنا نحن من يريد معالجة ازمة الخيارات عند العدو. لكن، يمكن تلبّس عقل العدو في هذه الاثناء، في محاولة لفهم ما يقوم به.
«متى توافرت القدرة والارادة للقيام بعمل عسكري كبير، فإن اسرائيل لن تحتاج الى ذريعة لشن عدوان جديد على لبنان»! هذه قاعدة ثابتة في عقل كل من ينخرط فعلياً في الصراع العربي – الاسرائيلي. لكن، متى تتوافر هذه القدرة والارادة؟ ليس في اسرائيل، اليوم، من يجرؤ على الاجابة. لا يقدر سياسيوها ولا عسكريوها ولا أمنيّوها، ولا كل من هو في موقع القرار ومطّلع على المعطيات، على ادعاء معرفة الجواب. لكن كل من في اسرائيل يعرف انه لا يمكن الركون الى هذا الاحباط، وانه يجب القيام بأي شيء، في سياق ما يفترضونه معركة احتواء قوة حزب الله.
دلّت حرب عام 2006 على نقطة جوهرية في الصراع الاستخباراتي مع العدو. في تلك الايام، أعلن دان حالوتس، رئيس الاركان، عن عملية الوزن النوعي، التي قام بها سلاح الجو ضد ما اعتقد العدو انها مخازن الصواريخ الاساسية للمقاومة. لم تمض ايام قليلة، حتى تيقن العدو ان تقديره لم يكن دقيقاً. والخلاصة التي توصل اليها الحرفيون لدى العدو تقول: يبدو ان عدونا يعلم ما نعلمه عنه. بل قد يكون عدونا ضللنا بأن أعلمنا بما أراد لنا ان نعتقده الكنز الثمين، ووقعنا في الفخ!
اليوم، يتصرف جيش الاحتلال وقيادته استناداً الى معطيات استخباراتية حول تموضع المقاومة على طول الحدود مع فلسطين. قرّر العدو، فجأة، أن يوافق المستوطنين على وجود أنفاق. يقول موشي يعلون، وزير الحرب الاسبق، إن الكذب ليس فيه مشكلة. لقد نفيت وجود أنفاق قبل عامين، رغم أنني كنت أعلم بوجودها. بنيامين نتنياهو لا يريد أن يكذب هذه المرة، لكنه قرر التخلي عما يفترض أنه «سر استخباراتي ثمين» بالكشف عن الانفاق وتدميرها من الناحية الجنوبية. لكن لا نتنياهو، ولا قيادته العسكرية، يجيبان عن اسئلة الجمهور: هل ان ما تعرفونه هو كل شيء عند الطرف المقابل؟ وماذا لو كان حزب الله يعلم بأنكم تعرفون بوجود هذه الانفاق؟ وكيف لنا ان نتأكد من عدم وجود المئات من هذه الانفاق على طول الحدود؟ ثم لماذا لم تتركوا هذه المعلومات للاستخدام في الحرب المقبلة، مثل ان تفخخوا النفق، وتفجروه في حالة استخدامه من قبل حزب الله؟...
إذا كان مبدأ حفر الانفاق صار واقعاً في عقل العدو إزاء طريقة عمل حزب الله، فكيف سيكون العمل على مسح الحدود متراً متراً من اجل ضمان عدم وجود أنفاق مخفية؟ ومن قال إن حفر نفق قبل عشرة اعوام، يشبه حفر نفق قبل بضعة أعوام فقط، أو قبل بضعة شهور، أو قبل بضعة اسابيع؟ ومن قال إن الانفاق يشبه بعضها بعضاً، كما هي التربة وطبيعة الارض التي لا تتطابق في كل الامكنة؟ وكم من الوقت تحتاج اسرائيل للخروج الى شعبها معلنة انجاز المهمة؟ وكيف سيعيش المستوطنون مع اسابيع واشهر طويلة من الحياة الخاضعة تماماً لمزاج ضابط عسكري؟ وكم ستصرف موازنات من الجيش ومن المؤسسات المدنية لمواجهة هذا الاستحقاق؟ وفي النهاية، فإن في قيادة العدو الحقيقية من يقول، عن وعي، إن الانفاق، على اهميتها الاستراتيجية أو التكتيكية، ليست هي الخطر الحقيقي الذي تخشاه اسرائيل.
لكن بعيداً عن الضجيج، والى جانب الحذر القائم من احتمال ارتكاب العدو حماقة على شكل خطأ، ينتج عنه ما لا يريده احد اليوم، فان تل ابيب تسعى الى مكاسب سياسية مباشرة من خلف هذه العملية، وهي تريد النتائج السياسية، لانها ببساطة باتت تعلم علم اليقين انه لا يوجد في الجهة المقابلة لها، من يقدر على إدخال اي تعديل، شكلي او هامشي او ثانوي، في برنامج عمل المقاومة العسكري والامني العامل من دون توقف. وقد لاحظت استخبارات العدو، خلال الاسبوع الماضي، كيف تصرف حزب الله على الحدود، لكنهم، لن يتحدثوا لشعبهم عن الامر!
والثمن السياسي المتاح الان، هو منع اللبنانيين أولاً، ودول المنطقة ثانياً، وعواصم القرار العالمي ثالثاً، من التصرف وكأن حزب الله بات قدراً لا قدرة عليه. العدو هنا، يسعى بكل قوته لأن يعيد المقاومة بنداً خلافياً داخل لبنان. صار العدو يقبل بأن يخرج سياسي أو اعلامي فقط، ويعترض على سلاح المقاومة. هو يريد ضجة في لبنان، لكنه لا يحصل عليها. وهو في المقابل يريد من حلفائه في فلسطين وسوريا والدول العربية البقاء في حالة استنفار، على خلفية ان حزب الله يشكل عنصر تهديد لهم قبل ان يكون عنصر تهديد لاسرائيل. والعدو يريد من اوروبا ودول العالم التصرف مع حزب الله على انه جسم منبوذ، لا فائدة من الحوار معه أو التعامل معه حتى كأمر واقع. العدو يريد ان تساعده الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في موجة ادانة عالمية لحزب الله. يريد ان يعيد النقاش في الامم المتحدة حول القرار 1701، وما اذا كان بالامكان تعديل القرار واضافة بنود تجعل القوة الدولية قادرة على تولي حماية الحدود. والعدو يسعى الى إقناع اوروبا بأن تصنف الحزب كله كمنظمة ارهابية، ومن ثم منظمة اجرامية. والعدو يسعى الى جعل العرب المتحالفين معه يقومون بالامر نفسه، وان يجعلوا حزب الله عدواً لشعوبهم، وان يحظروا التعامل معه او النطق باسمه او الدفاع عنه. وهم يسعون مع الغرب لأن يفرضوا حظراً عالمياً على حزب الله، لاعتقادهم ان ذلك يفيدهم في لحظة المواجهة الكبرى، وهم يدركون انه جهد لا طائل منه.
لكن، ماذا في مقدور العدو أن يفعل، إذا كان عاجزاً عن تحمل كلفة حرب مفتوحة مع حزب الله؟ وماذا بمقدوره أن يفعل إذا كان جيشه لا يضمن نصراً، لا سريعاً حاسماً ولا ناصعاً، إن فتحت النار على جانبي الحدود.
الذين لم يتعرّفوا على اسرائيل الجديدة، يمكنهم العودة الى الخلف مسافة ست وثلاثين سنة. عام 1982، قامت اسرائيل بأكبر عملية عسكرية تحت عنوان «سلامة الجليل». هذه «السلامة» جعلت العدو يتذرع بجروح أصابت دبلوماسياً اسرائيلياً، لشن حرب قادت الى احتلال بيروت، وسعي الى طرق ابواب الشام يومها. أما اليوم، فإن هذه «السلامة» تحتاج الى كل أنوار العالم للإضاءة على مشهد اكتشاف نفق، يمتد بضعة امتار داخل فلسطين المحتلة، وفي مكان منبسط، يعرف العدو أنه ليس فيه أي مانع طبيعي، أو بشري، لقيام عشرات المقاتلين بالتقدم، سيراً أو بدراجاتهم أو بسياراتهم العسكرية او المدنية نحو قلب الجليل. والمخيال لدى العدو، ليس فقيراً الى درجة أن يقنع نفسه بأن تدمير نفق كفركلا، يقفل بوابة تحرير فلسطين!