تحوّلت الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها فرنسا، في السبت الرابع على التوالي لها، إلى ما يمكن وصفه بانتفاضة حقيقية تدعمها وتؤيدها الغالبية العظمى من الشعب الفرنسي، التي قدّرتها استطلاعات الرأي بنحو 80 بالمئة، في مواجهة سياسات النيوليبرالية والعنف الاقتصادي والاجتماعي الذي تمارسه السلطة ضدّ عموم الفرنسيين، لمصلحة الأقلية من الأثرياء والرأسمالية الريعية وأرباب العمل…
هذه حقيقة ما يحصل هذه الأيام في فرنسا.. إنها انتفاضة ضدّ النموذج الرأسمالي المتوحّش الذي ينقضّ على التقديمات والضمانات الاجتماعية التي أمّنت الاستقرار الاجتماعي لعقود طويلة، تراجع خلالها الصراع الطبقي إلى الخلف طالما كانت السلطة توفر التقديمات الاجتماعية الأساسية، من طبابة وتعليم وفرص عمل وضمان شيخوخة وقانون ضريبي عادل في توزيع العبء الضريبي وغيرها من السياسات الاجتماعية والضمانات التي كان يوفرها قانون العمل، والتي جعلت عامة الشعب تعيش باستقرار وعدم خوف على المستقبل.. غير أنّ هذه التقديمات والضمانات الاجتماعية جرى القضاء عليها رويداً رويداً، إثر تطبيق النموذج الاقتصادي النيوليبرالي الأميركي البريطاني، والذي دشن في عهد الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان ورئيسة وزراء بريطانيا ماغريت تاتشر، وكان من نتيجة تطبيق هذا النموذج النيوليبرالي في فرنسا، تنفيذاً لقرار الاتحاد الاوروبي، أن أدّى إلى :
أولاً: خصخصة القطاعات العامة، الكهرباء، المياه، التعليم، الطبابة، السكن والبريد، والعديد من القطاعات الإنتاجية التي كانت تملكها الدولة، وبيعها للشركات الخاصة، الأمر الذي أدّى إلى تراجع مداخيل الخزينة العامة للدولة من ناحية، والقضاء على دولة الرعاية الاجتماعية من ناحية ثانية..
ثانياً: إعادة النظر بالقانون الضريبي الذي كان يعيد توزيع الثروة بطريقة عادلة بين فئات الشعب، واعتماد ضرائب جديدة تعفي الأثرياء وأصحاب الشركات الرأسمالية من تحمّل العبء الضريبي، وتحمّل هذا العبء الضريبي للفئات الشعبية المحدودة الدخل والمتوسطة، حيث فرضت أكثر من 13 ضريبة غير مباشرة على المواد والسلع الأساسية ومن ضمنها المحروقات، وحتى انّ ضريبة الكربون جرى فرضها على عامة الشعب بدلاً من فرضها على المصانع التي تسبّب التلوث للبيئة، وما زاد الخلل في تحقيق العدالة الضريبية القيام بإلغاء الضريبة على الثروات وإعطاء الرأسماليين قروضاً كبيرة تحت عنوان مساعدتها على إيجاد فرص عمل…
هذه السياسة الهادفة إلى معالجة أزمة تراجع مداخيل الدولة وارتفاع خدمة الدين، تسبّبت بإحداث خلل كبير على مستويين:
المستوى الأول: تعميق التفاوت الاجتماعي بين أغلبية الفرنسيين من جهة، والطبقة الثرية من جهة ثانية، وهو ما تجسّد في التهاب الأسعار وتدني القدرة الشرائية للمواطنين، وبالتالي ارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق…
المستوى الثاني: تراجع مداخيل الخزينة العامة للدولة وازدياد العجز المالي، والعمل على التوغل في سياسة الاستدانة المرهقة للاقتصاد والمواطنين في آن، حيث تنامى الدين العام ليصل الى 2.5 تريليون يورو وبالتالي ازدياد أعباء خدمة الدين البالغة سنوياً نحو 40 مليار يورو، والسبب في ذلك تراجع معدلات النمو ومداخيل الدولة بفعل الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصادات الرأسمالية نتيجة اشتداد المنافسة الاقتصادية الدولية، وتكاليف الحروب الاستعمارية الفاشلة والتي أدّت إلى انعكاسات سلبية على اقتصادات الدول الغربية التي شنّت الحروب في أفغانستان والعراق وسورية إلخ…
ولأنّ الرأسمالية لا تريد أن تتحمّل عبء هذه الأزمة وتسعى إلى الحفاظ على أرباحها الكبيرة، ولأنّ السلطة الفرنسية هي واجهة لهذه الرأسمالية، لا سيما الريعية منها، جرى اعتماد سياسات اجتماعية تحمّل الناس المزيد من الأعباء عبر تعديل النظام الضريبي من ناحية، وإدخال تعديلات على قانون العمل لمصلحة أرباب العمل من ناحية ثانية… وكانت الضريبة الأخيرة على المحروقات بمثابة الشرارة التي أدّت إلى تفجير الاحتجاجات التي تحوّلت إلى انتفاضة ضدّ السياسات الاجتماعية الجائرة، والمنحازة لمصلحة الأثرياء… فالشعب الفرنسي لم يعد يستطيع تحمّل تدهور قدرته الشرائية وهو أجبر على النزول إلى الشارع والتعبير عن غضبه برفض هذه السياسات الاجتماعية والمطالبة بالتراجع عنها أو استقالة الرئيس ماكرون وحلّ البرلمان.. وفي مؤشر على مدى شمول الأزمة غالبية الفرنسيين اتسعت الاحتجاجات في السبت الرابع وغطت كلّ المدن الفرنسية وشارك فيها أكثر من مائة الف مواطن.. فالعدالة الاجتماعية بحدّها الأدنى باتت تحتضر، والفرنسيون يريدون عبر انتفاضتهم استعادة ما فقدوه من تقديمات اجتماعية ومن قدرة شرائية، عبر مطالبتهم بإحداث تغيير اجتماعي جوهري في سياسات السلطة، بدءاً من إعادة العمل بالضريبة على الثروات، واعتماد الضريبة التصاعدية بدلاً من الضريبة غير المباشرة… واستعادة التقديمات والضمانات الاجتماعية التي كانت تؤمّن من خلال دولة الرعاية الاجتماعية وقانون العمل قبل إدخال التعديلات عليه لمصلحة أرباب العمل.. ولأنّ الرئيس الفرنسي يبدي تشدّداً في رفض الاستجابة لمطالب الشعب ويصرّ على الانحياز إلى جانب مصالح الرأسماليين بكلّ منوّعاتهم، فإنّ الأزمة مقدّر لها أن تتفاقم، وانتفاضة الشعب الفرنسي، في مواجهة العنف الاقتصادي والاجتماعي للسلطة، سوف تستمرّ وتتصاعد وتتوسّع المشاركة الشعبية فيها.. هذا يعني انّ احتدام الصراع الطبقي يأخذ منحى متصاعداً، وانّ مرحلة ما أطلق عليها الوفاق بين الطبقات قد انتهت… ولأنّ النقابات في فرنسا قوية وتملك بنية حقيقية، ولأنّ الوعي لدى عامة الفرنسيين لحقيقة الأزمة والمسؤول عنها واضح لديهم، ولأنّ السلطة الممثلة للرأسمالية ستدافع عن مصالحها وترفض التخلي عن جزء من أرباحها وتريد تحميل الطبقات الشعبية والوسطى عبء الازمة، فإنّ الصراع الطبقي سوف يستعر ويعبّر عن نفسه بهذا الشكل من المواجهة في الشارع الذي يرفض الخضوع والاستسلام للسلطة وعنفها الاقتصادي والاجتماعي المعبّر عنه بالهجوم الشرس على مداخيل الفرنسيين.. انّ زمن الاستقرار الاجتماعي في فرنسا انتهى، وانتهى معه زمن تلطيف الصراع الطبقي.. فالزمن الذي كانت فيه الرأسمالية الفرنسية، كما غيرها في أوروبا، تستطيع أن تؤمّن استمرار ازدهارها، وتحقيق الامتيازات للطبقة العاملة وعامة الفرنسيين قد أفل، لأنّ العالم تغيّر وزمن الهيمنة الغربية الاقتصادية قد أفل، وبالتالي على فرنسا، وغيرها من الدول الغربية، ان تعيش وفق إمكانياتها وقدراتها الاقتصادية وبالتالي عليها، اما القبول بالتخلي عن جزء من أرباحها وعدم المساس بمكتسبات الشعب المحققة على مدى عقود لضمان الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، أو انّ استمرارها في سياسة الهجوم على مداخيل الشعب سيقود إلى المزيد من احتدام الصراع والعنف الطبقي في الشارع.. لهذا فإنّ ما تشهده شوارع باريس، والمدن الفرنسية، انما يعبّر عن الطبيعة المتوحشة للرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة التي تتسبّب بالعنف الاقتصادي والاجتماعي، والردّ عليه بانتفاضة شعبية عنيفة في الشارع ما يجعل الصراع الطبقي يبلغ ذروته.. انطلاقاً من أزمة الرأسمالية وانسداد أفق تجديد ازدهارها على حساب شعوب العالم.. بعد فشل حروبها الاستعمارية وعدم قدرتها باستعادة هيمنتها على العالم، وبالتالي تقلص حصتها من الناتج العالمي إلى غير رجعة بفعل احتلال العديد من الدول الصاعدة اقتصادياً مساحة من السوق العالمية على حساب الدول الغربية.