جولة بسيطة في أي منطقة لبنانية، أو تحديداً في شوارع العاصمة بيروت، كافية للدلالة على حجم الأزمة المعيشية التي يمر بها لبنان الآن. ببساطة، استفسر من صاحب بقّالة عن مبيعاته، سيأتيك الجواب: انخفضت في الشهرين الماضيين الى ما دون النصف. إسأل النادل في أي مطعم عن ارتياد الزبائن، سيردّ فوراً: أنظر الى الطاولات التي كانت تعج على مدار الساعة بالناس، انها خالية. جرّب أن تتحدث مع السائق الذي يركن لك سيارتك عند وصولك الى أي محل، سيخبرك أن حجم العائدات انخفضت من حوالي ٥٠٠ الف ليرة في اليوم، الى ٧٠ الف ليرة، "حصل ذلك بشكل تدريجي خلال الاسابيع الماضية". ثم تابع الجولة الى مطاعم ومقاه، ستجد ان معظمها قامت بتخفيض الأسعار، وقدمت عروضات على النرجيلة، بسعر خمسة آلاف ليرة، بعد أن كان السعر يفوق ١٥ الف ليرة منذ شهرين.
ما يزيد من حجم الألم هو أن البلد يشهد تراجعاً في القدرة الشرائية في شهر الأعياد، التي كان ينتظرها التجّار في كل عام، للتعويض عن خسائر أصيبوا بها خلال اشهر السنة العادية.
من هنا يزداد قلق اللبنانيين، ويذهب بعضهم الى رمي كرة المسؤولية في ملعب "العهد القوي"، رغم أنه لا يتحمل مسؤولية الانهيار المعيشي المتدرّج وحده. فلا اموال تأتي من المغتربين اللبنانيين، نتيجة الازمة الماليّة الدوليّة، والتضييق في حركة نقل الاموال في العالم، والعقوبات الماليّة. فلننظر الى دول اوروبا، فلا يقتصر المشهد على سترات الفرنسيين الصفراء، لكن الشحن الشعبي مضبوط اوروبياً، كالجمر تحت الرماد، الى حد يتوقّع فيه خبراء السياسة أن تشهد العواصم الاوروبية "ربيعاً" شعبياً، كما حصل في بداية "الربيع العربي" الذي تحوّل الى أزمات وجوديّة بدخول الارهاب الى اللعبة.
لكن كل اللبنانيين الآن توّاقون لتأليف حكومة، يعتقدون انها الخلاص لما يشهده البلد من ازمة اقتصادية ضخمة. يسأل كل اصحاب المهن الحرة، والموظفون، والتجّار، والمزارعون، وسائقو سيارات الأجرة، وأصحاب وعمّال المطاعم، وغيرهم، عن مسار التأليف: متى تولد الحكومة؟ ينتظرون المخلّص الذي يقدم حلاً، وهم يعوّلون على مبادرة رئيس الجمهورية ميشال عون، ولكنهم سرعان ما يصابون بالإحباط مجددا عند كل عرقلة سياسية لأيّ تسوية مطروحة.
بالنسبة الى المواطنين اليوم، سيفقدون الأمل اذا حلّت الاعياد من دون ولادة حكومة جديدة. يستحضرون واقع البلد المعيشي للقول: لم يعد بمقدورنا ان نحتمل المزيد، كنّا نستحصل على قروض مصرفية تتسابق البنوك على تقديمها، واليوم تتسابق المصارف على اقناعنا بفتح حسابات وتجميد اموال لا نملكها، لقاء فوائد عالية جدا ومغرية، تجاوزت ١٥ بالمئة احيانا. لكن من أين تأتي الاموال في ظل تراجع المداخيل؟.
واقع سوداوي، لا يطال الوان محددة، فلا اصحاب السترات البيضاء، ولا الصفراء، فقط. بل كل اصحاب جميع السترات، من كل الالوان، يستشعرون الخطر الاقتصادي القائم. سواء أكان لون السترة يرمز الى مهنة، أو يدل على التزام حزبي، او عقائدي، او سياسي، أو يشير إلى انتماء طائفي أو مذهبي. الازمة توحّد كل الفئات اللبنانية، وتنذر بحراك يصعب ضبطه في حال تفلّته هذه المرة.
باتت القضية اهم من مقعد وزاري، واكثر جدية من استقبال رئيس حكومة لوفد نيابي او عدم استقبال النواب الستة السنّة. صار الوضع اللبناني يتطلب عملية جراحية، وخطة علاجية قصيرة وطويلة الأمد تضعها حكومة مسؤولة، من دون حرتقات، ولا مزايدات، ولا حسابات سياسية ضيقة، ولا مصالح محدودة.
لم يعد بمقدور اي فريق سياسي رمي الكرة في ملعب فريق آخر. لا تسمح وقائع الازمة القائمة بأن يفصّل الشعب المسؤوليات، بين فريق يتحمل وفريق لا يتحمّل. لكن العهد في الواجهة، نتيجة العناوين التي تمّ وضعها قبل انتخابات الرئاسة، الى درجة أن ناشطاً عتيقاً في التيار "الوطني الحر" بات يكرر القول: إذا فشلنا الآن، ذهبت آمالنا نهائياً في اصلاح الوضع في لبنان، وبات علينا السفر نهائياً منه. هذا الكلام يدلّ على مقاربة اليأس الذي وصلت اليه الناس.
هل يطّلع المسؤولون على ما يردد المواطنون الآن؟ اذا كانوا يسمعون بشكاوى الناس من دون تحرك منتج، فتلك مصيبة، وان كانوا لا يدرون، فالمصيبة اكبر.