اشتهر الخطاب الرسمي السعودي بالمحافظة على رتابة معينة فيه ترداد لبعض الفقرات والجمل التي تعودنا سماعها وبالأخص فيما يتعلق بتأييد حق الشعب الفلسطيني والالتزام بقضيته ومقاومته المحقة لتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي خصوصاً على المنابر الدولية وبتوجيهات مباشرة من الخارجية السعودية المنفذة بدورها لأوامر صادرة من الديوان الملكي مركز السلطة والقرار السعودي.
وخلال الفترة التي كان فيها جميل بارودي سفيراً للسعودية في الأمم المتحدة في السبعينيات، تضمنت خطابات السعودية في المنتديات الدولية هجوماً على إسرائيل، بل ذهب بارودي في هجومه إلى حد التشكيك بوجود شعب يهودي، وأنهم كلهم أحفاد الخزر «قوم كانوا يعيشون على ضفاف الفولغا وبحر الخزر اعتنقوا اليهودية في القرن الثامن».
في الأسبوع الماضي، وخلال نقاش إدانة الهجمات التي تقوم بها «حماس» ضد اعتداءات إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان في انتظار العدو الإسرائيلي مفاجأة سارة قدمها الجانب السعودي اعتبرت بمنزلة الهبة الإلهية المنتظرة لإسرائيل.
السفير السعودي الحالي عبد اللـه بن يحيى المعلمي، بدأ خطابه بهجوم على دولة إسرائيل فيما يتعلق بالفلسطينيين، بحسب التقليد السعودي، وكرر موقف بلاده التقليدي المؤيد لحل الدولتين مع القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية.
لكنه فجأة دمج في كلامه جملة لافتة وجديدة يجب التوقف عندها ملياً ولا يمكن المرور عليها مرور الكرام حيث قال «إن السعودية تدين إطلاق صواريخ من غزة على أهداف مدنية إسرائيلية»، ودعا إلى اتخاذ خطوات عاجلة لضمان وقف إطلاق نار فوري.
مما لا شك فيه أن كلام السفير السعودي في الأمم المتحدة يبشر بتوجه الرياض نحو اتخاذ موقف يحمل في طياته جواً جديداً شبيهاً إلى حد التطابق مع موقف القاهرة في العام 1978 في الفترة التي سبقت زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات الشهيرة إلى تل أبيب مفتتحاً بذلك عهد التفكك العربي وخروج مصر بما تمثل من الصف العربي معلناً بذلك عن بدء مرحلة التطبيع المتدحرج بين بعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني.
ولو عدنا إلى تاريخ المرحلة التي مهدت لارتكاب السادات خيانته العلنية مدشناً مرحلة تطبيع مذل مع العدو الإسرائيلي لوجدنا أن الرئيس المصري أنور السادات قبل رحلته الشهيرة إلى تل أبيب بدء خطابه في مجلس الشعب المصري آنذاك بهجوم عنيف على إسرائيل بأقذع العبارات، لكن هجومه العنيف عليها كان بهدف التغطية على عبارة أساسية غيّرت الواقع العربي برمته حيث قال: «أنا مستعد للذهاب إلى آخر العالم، وحتى إلى الكنيست، للتحدث مع الإسرائيليين»! تلك العبارة كانت بمنزلة المفتاح الذي فتح الطريق للتغطية على اتفاقية كامب ديفيد المذلة. وصحيح أن السفير السعودي الحالي عبد اللـه بن يحيى المعلمي، بدأ خطابه بهجوم على دولة إسرائيل بيد أن إدانة السفير السعودي في الأمم المتحدة إطلاق المقاومة الفلسطينية صواريخها على إسرائيل من دون إدانة الاعتداءات والغارات الإسرائيلية على غزة أعادنا بالذاكرة إلى الأسلوب نفسه الذي اتبعه السادات في خطابه أمام مجلس الشعب المصري قبل ذهابه إلى القدس.
إذاً السعودية تعلن أنها تدين كل أشكال المقاومة المسلحة ضد العدو الإسرائيلي بينما تتقصد تغييب أي إدانة لجرائم العدو الإسرائيلي ضد الفلسطينيين إضافة إلى تشجيع توجيه تهمة الإرهاب إلى المقاومة اللبنانية وهذا إن دل على شيء فهو دليل على انتهاج السعودية نهجاً متطابقاً مع النهج الإسرائيلي وخصوصاً من جهة تبني مبدأ العداء لحركات المقاومة وبالتالي العداء المشترك لإيران.
إن ما صدر عن السفير السعودي في الأمم المتحدة لا يمكن أن يكون كلاماً صادراً عن شخص سفير دولة بوزن السعودية بيد أن كلامه هو تعبير واضح عن سياسة وتوجه جديد لحكومة السعودية وهو بمنزلة تلميح موجّه إلى أسماع الإسرائيليين، مفاده أن سياسة السعودية في المنطقة قد تغيرت بما يتلاءم مع التطورات والحاجات السعودية. ومن المؤكد أن مثل هذا الكلام الاستثنائي والتوجه السعودي الجديد قد تلقفه العدو الإسرائيلي باغتباط وفرح لأن العدو سيستمد منه تشجيعاً في تصعيد العنف والصلف ضد الفلسطينيين وفي استمرار احتلاله لفلسطين بانتظار تظهير مرحلة التطبيع العلني بين السعودية والعدو الإسرائيلي من باب المبادرة العربية وصولا إلى توقيع صفقة القرن ومن ثم التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني.
من هنا يتظهر لنا اغتباط رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو الغارق بأزماته الداخلية بهدية السعودية الإلهية وسبب اندفاعه للدفاع عن أمن السعودية باعتباره خطاً أحمر لا يمكن السماح بخرقه ولا يمكن لإسرائيل التهاون به.
وإذا ما انتبهنا إلى استماتة الرئيس الأميركي قي تأمين كل سبل الحماية لولي العهد السعودي محمد بن سلمان وتبرئته من ارتكاب جريمة قتل وتقطيع جمال خاشقجي في تركيا وهو الأمر الذي هشم صورة السعودية وأدى إلى تراجع دورها على الصعيد الإقليمي والدولي إضافة إلى اعترافه العلني بالدور السعودي المهم لاستمرار إسرائيل وأنه لولا السعودية لكانت إسرائيل واجهت المتاعب القاتلة، لاكتشفنا أن سياسة السعودية الجديدة في المنطقة ترمي إلى الارتماء في أحضان العدو الإسرائيلي. وأمام هذا الواقع بات علينا التأكد من أن كل تلك المناخات والترتيبات السعودية الأميركية الجارية على مجمل الساحات الدولية والإقليمية هي لتهيئة السجاد الأحمر لاستقبال نتنياهو في قصور الرياض والذي لم يعد سوى مسألة وقت.