في الوسط المسيحي نقاش حول ثلاثة عقود ما بعد إتفاق الطائف، بعدما شكلت عودة العماد ميشال عون إلى لبنان ووصوله إلى رئاسة الجمهورية من جهة، والعفو عن رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع وعودته إلى الحياة السياسية، إشارتان إلى عودة الحيوية السياسية المسيحية بقواها الحيّة والفاعلة، والتي كان تغييبُها علامة سلبية لدى المسيحيين تجاه ما بعد الطائف، تكفي لإقفال النقاش حول التقييم. أما اليوم ومع متغيّرات المنطقة والتطورات اللبنانية، فالنقاش حيوي ونشط حول ما إذا كان المسيحيون يُحسنون التصرّف، ويقفون في المكان الصحيح أم يضيعون في صحراء التيه التي تصنعها الرياح الحارة والباردة التي تهب على المنطقة ويلفح بعضُها وجهَ لبنان، ويشغل بالَ اللبنانيين.
يدور النقاش حول الأساسيات الكيانية من جهة والخيارات السياسية من جهة أخرى، وتقول واحدة من وجهات النظر أنّ المسيحيين تائهون في الإنتظارات بين قلق من شيعية سياسية تراهن على الإنتصارات في المنطقة وسنّية سياسية خائفة، ومشروع عروبة مدنية حضارية ضائع، ومشكلة هذه النظرة التي تسعى لجلد المسيحيين بذنب لم يقترفوه أنها وهي تنطلق من مقاربات تاريخية لصيغة العيش المشترك وتوازناتها ونهائية الكيان اللبناني، ومخاطر المتغيرات التي فرضتها تحديات المنطقة على لبنان، تتجاهل النجاحات التاريخية المحققة على هذه الأصعدة جيمعها، فلمَن ينادي المسيحيين بالتمسّك بالعروبة ويقرعهم بتهمة الإنصراف عنها والإنتظار، إنه يتجاهل أنّ أهم إستثمار مسيحي في العروبة كان في وقفتهم أثناء حرب تموز 2006 بوجه العدوان، وكان لتفاهم مار مخايل الدور الكبير في هذا الإستثمار القائم على تعريف للعروبة يبدأ من اليقين بصدقية دعوة البابا يوحنا بولس الثاني للبنانيين ليعيشوا قضايا منطقتهم ويحذّرهم من الإنفصال عنها.
لقد نجح المسيحيون في ترسيخ مفهوم نهائية الكيان اللبناني، بعد عقود من التباين حوله، ولم يعد في لبنان مكوّنٌ وازن ينظر نحو لبنان كخطأ تاريخي أو زائدة جغرافية، ينتظر متغيرات تتيح دمجها بالمحيط العربي أو الإسلامي، كما كان الحال في منتصف القرن الماضي، كما نجح المسيحيون في تثبيت مفهوم للسيادة يبدأ من التشارك في مواجهة الخطر الإسرائيلي ويدعو لحوار مستدام يتيح ترسيم حدود العلاقة بين الدولة والمقاومة وبين ضرورات السيادة ومقتضيات الحماية والقوة، ولا تزال الغالبية المسيحية مؤمنة بالخيار الذي يمثله الرئيس ميشال عون على هذا الصعيد، سواءٌ بالموقف الحازم من الخطر الإسرائيلي أو بالتعامل الدقيق تحت سقف القانون الدولي والقرارات الدولية مع حاجة لبنان لمقتضيات الحماية بوجه الأخطار الإسرائيلية .
في المقابل لا يمكن تحميل المسيحيين مسؤولية غياب المشروع الحضاري المدني العربي الذي يبدو الحديث عنه سرابا ومجرد وهم، خصوصاً عندما يكون الثقل الوازن بين الدول العربية معقوداً لكيانات لا ديمقراطية ولا حريات فيها، بما في ذلك خصوصاً حرية المعتقد الديني، لذلك لا يبدو الأمر مطروحاً على جدول أعمال المسيحيين إلّا من باب جلد الذات بغير وجه حق، ويكفيهم من عروبتهم لغتها والتشارك في مواجهة الخطر الإسرائيلي، ودورهم مع سائر اللبنانيين في مواجهة مخاطر التهجير والتكفير، التي تُسقط العروبة بالضربة القاضية وتلغي ما يجعلها الجمع الحضاري للمسلمين والمسيحيين، وفيما يقدّم المسيحيون مع المسلمين لبنان نموذجاً للمشروع العربي الحضاري، يدركون معنى تمسّكهم بأولوية الإلتفات لوطنيتهم اللبنانية، التي رغم كل القلق السياسي على محطاتها الدستورية، لا يواكبها قلق وجودي، في ظلّ توافق إسلامي مسيحي على خطر التطرف الإرهابي، الآتي من عناوين إسلامية، يُجمع مسلمو لبنان ومسيحيوه على رفضها ونجحوا بمواجهتها.
سيكون سهلاً لدى التدقيق في هواجس المسيحيين الفعلية إكتشاف حقيقة أنه ليس في العقل المسيحي الجمعي وجودٌ لمشروع سني أو شيعي طامح أو طامع بلبنان، بل صراعات إقليمية يخشى اللبنانيون مسيحيين ومسلمين من أن يدفعوا فواتير تصعيدها أو تسوياتها، ويعتقدون بصدق أنّ تفاهماتهم ستُسهم في تحسين موقعهم للحؤول دون ذلك، وأشد القضايا تسبّباً للقلق لدى اللبنانيين عموماً، والمسيحيين خصوصاً، على هذا الصعيد وتقارب التحوّل لقضية قلق وجودي، هي مخاطر التوطين التي تُطرح حول مستقبل الوجود السوري والفلسطيني في لبنان، وهي مشاريع لا يسمعها المسؤولون اللبنانيون من شركائهم المسلمين بل يسمعونها من قادة الغرب المسيحي الذين لا يبدو أنّ الوجود المسيحي في أولوياتهم لدى مقاربة قضايا المنطقة، ويخشى المسيحيون أن يدغدغ بعض هذه الدعوات غرائز وطموحات بعض المسلمين فيضعفوا أمامها.
من حق المسيحيين الذين يؤمنون بنجاح رهانهم على نهائية لبنان ككيان وطني لجميع اللبنانيين أن يباهوا بنجاحاتهم، وهم إذ يعتبرون أنهم حققوا إنجازاً تاريخياً بذلك مع تحوّل هذا الإيمان إلى يقين لبناني جامع، لم يكن موجوداً من قبل، يرون في مشاركتهم بتوفير التضامن مع مقومات حماية لبنان بوجه خطر العدوان الإسرائيلي وتمدد الإرهاب التكفيري، نجاحاً في منع العواصف الإقليمية من تهديد مقومات هذا الكيان والتوافق حول نهائيته، ويسعون لتعميم هذا النجاح في منع التوطين كخطر داهم، ومن حق المسيحيين هذا التباهي بالإنجاز بينما هم يرون بالمقابل أنّ الدول الكبرى في المنطقة تواجه مخاطر وجودية، وها هم يواصلون الإستثمار على إنجازاتهم، ويسعون دون إنتظار ولا وقوف على الرصيف لصناعة توافق لبناني ينجح بإنهاء القلق من مخاطر التوطين مهما كانت نتائج واتّجاهات الصراعات الإقليمية، فيترجمون مفهومهم الخاص للنأي بالنفس بصفته النأي بلبنان عن دفع فواتير التفاهمات والصراعات في المنطقة على حساب وجودهم أو نهائية كيانهم أو توازناته الدقيقة.