يضعنا الإنجيل أمام جماعتين، سماوية وأرضية، تتكوّنان من تتألّف شخصيّات لَعِبت دوراً أساسيّاً في حدث التجسّد: مريم، يوسف، الملائكة، الرعاة، المجوس، هيرودوس...، وهؤلاء كلّهم شاهدوا ميلاد الربّ وعبّروا عن فرحهم بهذا الحدث العجيب، إلاّ أن منهم مَن أمرَ بقتل الصبّي.!
سيكون موضوع تأملنا في تساعية الميلاد الحاضرة، بدورِ كلٍّ من هذه الشخصيّات المذكورة في حدث ميلاد الربّ، متوّقفين مذهولين معها بهذا الحدث العجيب الذي ملىء الزّمان والمكان، وفتح أبواب السماء على أمام الطفل الإلهي لينزل إلى عالمنا وينقٌلنا من الظلمة إلى النّور.
حُجّاجٌ إلى النّور(متى21-12)
مقدمة
بحثَ المجوس عن النور من خلال اتباع النجم الذي ظهر في السماء، فوجدوه في مغارةٍ ومزود مُحاطاً بِأَبٍ وأُمّ يشتعلان حُبّاً.
الإنجيل
"ولَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ في بَيْتَ لَحْمِ اليَهُودِيَّة، في أَيَّامِ الـمَلِكِ هِيرُودُس، جَاءَ مَجُوسٌ مِنَ الـمَشْرِقِ إِلى أُورَشَلِيم، وهُم يَقُولُون: "أَيْنَ هُوَ الـمَوْلُودُ مَلِكُ اليَهُود؟ فَقَدْ رَأَيْنَا نَجْمَهُ في الـمَشْرِق، فَجِئْنَا نَسْجُدُ لَهُ". ولَمَّا سَمِعَ الـمَلِكُ هِيرُودُسُ اضْطَرَبَ، واضْطَرَبَتْ مَعَهُ كُلُّ أُورَشَلِيم. فَجَمَعَ كُلَّ الأَحْبَارِ وكَتَبَةِ الشَّعْب، وسَأَلَهُم: "أَيْنَ يُولَدُ الـمَسيح؟". فَقَالُوا لَهُ: "في بَيْتَ لَحْمِ اليَهُودِيَّة، لأَنَّهُ هـكَذَا كُتِبَ بِالنَّبِيّ: وأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمُ، أَرْضَ يَهُوذَا، لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ رَئِيسٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيل". حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الـمَجُوسَ سِرًّا، وتَحَقَّقَ مِنْهُم زَمَنَ ظُهُورِ النَّجْم. ثُمَّ أَرْسَلَهُم إِلى بَيْتَ لَحْمَ وقَال: "إِذْهَبُوا وابْحَثُوا جَيِّدًا عَنِ الصَّبِيّ. فَإِذَا وَجَدْتُمُوه، أَخْبِرُونِي لأَذْهَبَ أَنَا أَيْضًا وأَسْجُدَ لَهُ". ولَمَّا سَمِعُوا كَلامَ الـمَلِكِ انْصَرَفُوا، وإِذَا النَّجْمُ الَّذي رَأَوْهُ في الـمَشْرِقِ عَادَ يَتَقَدَّمُهُم، حَتَّى بَلَغَ الـمَوْضِعَ الَّذي كَانَ فيهِ الصَّبِيّ، وتَوقَّفَ فَوْقَهُ. فَلَمَّا رَأَوا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحًا عَظِيمًا جِدًّا. ودَخَلُوا البَيْتَ فَرأَوا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ، فَجَثَوا لَهُ سَاجِدِين. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُم وقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا، ذَهَبًا وبَخُورًا ومُرًّا. وأُوْحِيَ إِلَيْهِم في الـحُلْمِ أَلاَّ يَرْجِعُوا إِلى هِيرُودُس، فَعَادُوا إِلى بِلادِهِم عَنْ طَرِيقٍ آخَر".
1- رِحلَة حجٍّ إلى الديار
شقّ المجوس طريقهم من البَعيد، مُستنيرين بالعلامة التي ظهرت لهما في السّماء، بالنّجم الذي رأوا فيه أكثر من ظاهرة طبيعيّة عاديّة. كانوا رِجال عِلمٍ ورجال روح، باحثين عن المعرفة العلميّة وعن الله، ولهذا أتوا من البلاد البعيدة إلى لقاء الطفل "المَولود مَلكُ اليَهود"(متى2: 2).
لم تكن الطريق إلى بيت لحم مُعبّدة بالورود، بل تضمّنت مشقّات كثيرة، ولعلّ اخطرها بروز هيرودوس فيها، والذي بعدما دعاهم إلى لِقائه، حاول استغلالهم والإيقاعِ بهم بطريقة ملتوية، ليستدلّ من خلالهم على الطّفل المولود ويقتله. يُضاف إلى هذه كلّها، خطر تحمُّل تَبعات قرار العودة إلى بلادهم من طريق آخر، مُتجاهلين أمر هيرودوس.
2- جاؤوا من مكان وخرجوا من آخر
أتى المجوس للسّجود للرّب من باب هيرودوس، وخرجوا من باب النّور الذي أنار قلبهم وفكرهم، وحالَ دون وقوعِهم في الفخّ القّاتل.
المجوس مثال لنا في ضرورة أن نتحلى بهذه الفطنة الرّوحية وأن نَعي المخاطر ونتجنّبها. "إنّ هؤلاء الحكماء القادمين من المشرق، والقول للبابا فرنسيس، يعلّموننا كيف نتجنّب الوقوع في فخاخ الظلمات وكيف ندافع عن أنفسنا في الظلام الذي لا ينفك يبحث عن سبيل ليغلّف حياتنا. يجب أن نستقبل في قلوبنا نور الله وفي الوقت نفسه أن نتدرّب على الفطنة الرّوحية التي تجمع البساطة بالحكمة:"كونوا حُكماء كالحيّات ووُدعاء كَالحَمَام"(مت10: 16).
3-من عالم المظاهر إلى النجم الحقيقي
في الواقع، إنَّ حياتنا هي رحلةُ حجّ باتجاه النور الذي هو هدفها، ولكنها مسيرة محفوفةٌ بالمخاطر. فقد يقف فيها هيرودوس الذي يدعونا إلى التآمر على المسيح والإنقلاب عليه وتبنّي طريقٍ آخر. ولكن أنوار النعمة الألهيّة تنتشلنا على الدّوام، فتكشف لنا الطريق الحقيقيّة التي يجب أن نسلكها لننجحُ بالوصول إلى الهدف.
ومن أجل الوصول، أيّدنا الله بكتابين نستطيع من خلالهما أن نستخلص الإشارات التي تقودنا في طريقنا نحوه، على ما يقول البابا فرنسيس: "كتاب الخلق وكل الكتاب المقدس". ولكنَّ هذين الكتابين بحاجة إلى أعين الإيمان لكي تُبصِرَ مضمونهما، وآذانٍ تُصغي إلى الله الذي يكلمنا وكما يقول المزمور: "كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي" (مز 119: 105). الإصغاء إلى الإنجيل وقراءته والتأمل فيه واعتباره الغذاء الروحي، كل ذلك يسمح لنا بملاقاة يسوع الحي فنتعلّم منه ومن محبته، وننال الجُرأة للوقوف في وجه الشرّ الذي يفتح فاه باحثاً عن الإنسان لكي يُهلِكه. أيّها الأحبّاء، نحن مدعوون كالمجوس الحُكماء إلى التطلّع إلى النجم وإلى الإفتتان بجماله، لا نجوم هذا العالم البراقة التي تخدع وتجعلنا نكتفي بالمظاهر، بل إلى النجم الحقيقي، يسوع المسيح، الذي لا يخدع الناظرين إليه لأنه أمين.
صلاة
"مَجوسُ بِلاد فارِسَ، حَمَلوا وأتَوا بالقرابينِ للوَلَدِ الجديدِ، المَولودِ في بيت لَحمَ. وَدَخَلوا وَسَجَدوا لَهُ وَقَرَّبوا هدايا المَجدِ لِذاكَ الذي، بحُبِّهِ، شاء أن يَصيرَ إنساناً. هللويا. ألمَجدُ لَهُ لأنّهُ بميلادِهِ خَلَّصَ آدَمَ وجميع أولادِه. آمين" (صلوات أسبوع الميلاد الماروني، مخطوط بكركي 66).