لم يعد الكلام عن انسحاب أميركي من سورية مجرد أمنية أو تحليل أو استنتاج عسكري أو سياسي لمجريات الأمور على الساحة السورية، فقد صار هذا الانسحاب أمراً واقعاً بعد الأوامر الصادرة عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالمباشرة في تفكيك القواعد الأميركية الموجودة في سورية، والبدء بانسحاب قواتها العاملة هناك، والعودة إلى مراكز عملها في الولايات المتحدة الأميركية ضمن مهلة زمنية تتراوح بين 60 إلى 100 يوم.
ومع صدور القرار الأميركي كثرت التحليلات والاستنتاجات حول خلفيات هذا القرار. فالبعض اعتبر قرار ترامب مفاجئاً، والبعض الآخر اعتبره طعنة في الظهر، وآخرون اعتبروه انكفاءً أميركياً عن المنطقة لمصلحة روسيا واعترافاً بالنفوذ الروسي المتعاظم في سورية والمنطقة.
أما إسرائيل فقد ادعت أن قرار واشنطن بسحب قواتها من سورية جاء نتيجة اتفاق مسبق مع موسكو مقابل احتواء أنشطة إيران وحزب اللـه على الأراضي السورية.
بيد أن نفياً رسمياً روسياً صدر عن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، دحض فيه مزاعم إسرائيل المتعلقة بالانسحاب الأميركي من سورية حيث قال حرفياً «كلا، الأمور ليست كذلك إطلاقاً». وأضاف إن القرار الأميركي اتخذ لأن وجودها في سورية لا يستوفي شروط الشرعية الدولية وأن القرار جرى من جانب أحادي ومن دون تنسيق مسبق مع روسيا.
تعليق بيسكوف جاء رداً على ما نشرته صحيفة «إسرائيل هيوم» نقلاً عن مسؤولين أردنيين أنه بموجب اتفاقٍ بين موسكو وواشنطن، فإن القوات الروسية في سورية تتخذ خطوات لاحتواء أنشطة كل من إيران وحزب اللـه تمهيداً لانسحاب القوات الأميركية من الأراضي السورية.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحفي السنوي للعام 2018 أجرى مقارنة مسهبة بين الوجود الروسي الشرعي المستند إلى طلب سوري رسمي، وبين الوجود الأميركي غير الشرعي في سورية. وأضاف إنه من الطبيعي أن تنسحب أميركا من سورية لأنها لم تستوف شروط الوجود في سورية. وختم بوتين حديثه قائلاً «مما لا شك فيه أن الانسحاب الأميركي من سورية سيكون عاملاً مساعداً للولوج في الحل السياسي في سورية».
الواضح، أن المستفيد من قرار ترامب هم سورية وروسيا وإيران، وهم في حال خصومة مع الولايات المتحدة، وخصوصاً بعد أن كانت القوات الأميركية تقاتل وتشرف على تدريب وتسليح الإرهابيين في سورية.
ومهما كانت خلفيات وحيثيات قرار الرئيس الأميركي بالانسحاب من سورية، فإنه من دون أدنى شك يصب في مصلحة سورية ومحور المقاومة، وهو بمنزلة ترجمة فعلية وميدانية تشير إلى البدء بجني المكاسب الجيوسياسية لسورية ولمحور المقاومة، وأيضاً إيذاناً بعودة الدور السوري على الساحة الإقليمية لاعباً أساسياً في المنطقة وكنقطة ارتكاز لإعادة ترتيبها.
أما الخاسرون من الانسحاب الأميركي فهم:
– إسرائيل، التي حاولت التخفيف من صدمة القرار الأميركي بعد إصابتها بالخيبة. فقد بدا الإسرائيلي في حالة ارتباك شديد حيث أوكل إلى المحلل السياسي في القناة العاشرة الإسرائيلية ترويج خبر مفاده أن الانسحاب الأميركي جاء بعد رفض إسرائيل اتفاقاً بين روسيا وأميركا والسعودية وسورية يقضي بالانسحاب الأميركي مقابل انسحاب إيراني من سورية، وذلك في محاولة لتحويل الهزيمة إلى انتصار.
– «داعش» ومتفرعاتها تُركوا من دون سند، ما يفسح المجال أمام الجيش العربي السوري لاستكمال مهامه العسكرية بالسيطرة على قواعد «داعش» وتوابعها، تمهيداً للقضاء على وجودهم في آخر معاقلهم في سورية.
– الأكراد لم يعد أمامهم ملاذ إلا العودة الآمنة إلى حضن الدولة السورية، وخصوصاً بعدما وصف مجلس قيادة تنظيم قسد الكردي قرار الانسحاب الأميركي من سورية بأنه «طعنة في الظهر».
– الاتحاد الأوروبي الذي وصف قرار الانسحاب الأميركي بالمفاجئ والسيئ وأنه بمنزلة انهيار خط الدفاع الأول عن أمن أوروبا وانهيار المنظومة التآمرية على سورية، إضافة إلى خوف الاتحاد الأوروبي من هجرة معاكسة لـ«داعش» والإرهاب، وحتى أمواج النازحين من سورية نحو أوروبا.
– أما التركي رغم ترحيبه بالانسحاب الأميركي، فإنه ومن دون أدنى شك سيكون الخاسر التالي بعد الأميركي، وذلك بعد الجمع بين اللاشرعية للوجود الأميركي واللاشرعية للوجود التركي على الأرض السورية، الأمر الذي سيجبر التركي على اتباع مواصفات الانسحاب الأميركي من سورية.
لكن، ماذا بعد الانسحاب؟ إن ما أعلنه ترامب في تصريحاته يشكل إقراراً أميركياً واضحاً وصريحاً بدور إستراتيجي روسي فاعل في سورية والمنطقة، ويشكّل أيضاً دليلاً على وجود نية أميركية بتنفيذ عملية خلط أوراق غير مسبوق في المنطقة لإعادة تمركز سياسي وعسكري بما يتلاءم مع مصالح الإدارة الأميركية السياسية والاقتصادية، من دون أي احتساب لمصالح أقرب حلفاء أميركا في المنطقة، أي إسرائيل.
قرار ترامب أدى إلى استقالة «أو إقالة» وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، وذلك نتيجة خلاف محتدم بين ترامب والحكومة العميقة في أميركا، خصوصاً مع ماتيس وفشل الأخير في إقناع ترامب بالعدول عن تنفيذ القرار خوفاً من إمكانية تهديد أمن إسرائيل واختلال ميزان القوى في المنطقة لمصلحة سورية وروسيا وإيران.
إذاً ترامب يصر على تنفيذ قراره بالانسحاب، وهنا يبرز السؤال: هل قرر ترامب تسعير المعركة الأميركية الداخلية وكسبها ضد الحكومة العميقة في الولايات المتحدة؟ أم إن إصرار ترامب على تنفيذ قرار الانسحاب جاء نتيجة عدم الرغبة في إرسال قوات أميركية من دون جني أرباح مادية وازنة كالتي يحنيها من دول الخليج العربي؟
إن معركة ترامب مزدوجة ذات وجهين، وجه مادي بحت بحيث يتحول الجنود الأميركيون إلى سلعة يتم استئجارها لحماية أنظمة مقابل المال والسيطرة على ثروات الأنظمة المحمية أميركياً. أما الوجه الآخر، فهو كسب الحرب الداخلية الأميركية ضد الحكومة العميقة التي تحاول جاهدة إيجاد السبل الكفيلة لعزل ترامب أو عدم التجديد له ولاية ثانية.
ألم يقل ترامب أن أميركا لا يمكنها لعب دور الشرطي في المنطقة بلا مقابل؟
لقد استطاعت سورية، بصمودها ودبلوماسيتها، حرمان أميركا وحلفائها من تحقيق أي هدف إستراتيجي من وجودها العسكري غير الشرعي على الجغرافيا السورية.
لكن على الرغم من أوامر ترامب بالانسحاب من سورية، ومن أجل تثبيت المكاسب وترسيخ انتصار سورية، يبقي علينا أن نتحلى بالواقعية وترقب آلية تنفيذ عملية الانسحاب العسكري الأميركي غير الشرعي من سورية، الأمر الذي يجب تطبيقه أيضاً في مرحلة قريبة على الوجود العسكري التركي غير الشرعي في سورية، وهنا يكمن الدور الروسي الإستراتيجي الفاعل.