في العام 2018، سلكت «الأونروا» خطوات جديدة في الطريق الذي يقودها حتماً إلى موتها. وهذا الموت جرى تدبيره خلف الكواليس، ببطء وهدوء، بحيث لا يستفزّ الأقلية الباقية في العالم، القائلة بوجود قضية فلسطينية وشعبٍ فلسطيني له الحقُّ في العودة إلى دياره.
في الأيام الأخيرة من العام 2017، احتفل الإسرائيليون باعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لهم. وفيما كان الأميركيون في صدد تنفيذ هذه الخطوة عملياً، أتبعوها في نيسان بقرار آخر هو قطع المساعدات عن «الأونروا».
في الأوساط الفلسطينية هناك مَن يعتبر أنّ الخطوتين تصبّان في هدفٍ واحد هو الاستجابة لرغبة إسرائيل في تصفية القضية الفلسطينية وتهويد فلسطين. وثمة قرارات اتّخذها الإسرائيليون، وأخرى على الطريق، تهدف إلى تكريس يهودية الدولة.
فـ«الأونروا» تقدّم مساعدات لأقل بقليل من 6 ملايين لاجئ فلسطيني، منهم قرابة مليون ونصف المليون في غزة، أي ربع العدد الإجمالي. وأما الضفة الغربية ففيها قرابة المليون لاجئ، وفي لبنان، قرابة الـ450 ألفاً (خلافاً للرقم الهزيل الذي أعلنه الإحصاء اللبناني- الفلسطيني)، وفي سوريا نحو 600 ألف.
ولذلك، تسبّب القرار الأميركي بأزمات خانقة في المخيمات الفلسطينية، ومنها مخيمات لبنان. وتوقفت كلياً أو جزئياً مساعداتٌ تربوية وصحية واجتماعية كان يحصل عليها الفلسطينيون. وفي بعض الأحيان، جرى تبرير هذا التدبير بوجود هدرٍ في إدارة المنظمة. ولم تنفع الفلسطينيين احتجاجاتهم التي نفّذوها أمام مكاتب «الأونروا» في المخيمات و»الإسكوا» في بيروت.
ومعلوم أنّ مساهمة الولايات المتحدة الأميركية هي الأكبر، يليها الاتحاد الأوروبي، ثم السويد ودول خليجية واسكندنافية وكندا واليابان. ولكن، قبل يومين، رفعت المملكة العربية السعودية مساهمتها إلى 50 مليون دولار لتعويض النقص في الميزانية.
وعلى خطورة انعكاسات أزمة التمويل اجتماعياً وصحياً وتربوياً، فإن المخاطر الحقيقية تكمن في بنود أخرى يجري التحضير لضربها وتهدف إلى القضاء على المنظمة نهائياً. ويتوقع خبراء أن يتم التركيز عليها في المرحلة المقبلة، مع بداية العام 2019.
والخطوة الجديدة ستكون حصر صفة النازح بمَن تشرَّد في العام 1948، فلا يكون اللجوء صفةً قابلة للتوريث عبر الأجيال. وهذا هو الاتجاه الذي تضغط إسرائيل حالياً لتمريره لدى المرجعيات الدولية الضاغطة، ولاسيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
وتماشياً مع هذا الاتجاه، تقدَّم نائب جمهوري، في ربيع العام 2018، بمشروع إلى الكونغرس يقضي بإعتماد هذا المعيار، أي بإبعاد أبناء لاجئي العام 1949 وأحفادهم عن «الأونروا» وإعادتها إلى «صيغتها الأصلية والتعامل مع الرواية الكاذبة التي تُضخِّم عدد اللاجئين».
هذا الخيار، إذا تمّ اعتماده لاحقاً، كما جرى اعتماد القدس عاصمة لإسرائيل، سيعني نهاية «الأونروا» مع وفاة اللاجئين الذين تشرَّدوا قبل 70 عاماً. وهؤلاء، لم يبقَ منهم أحدٌ على قيد الحياة إلا طوال العمر جداً… وأما أولادهم وأحفادهم فسيجري توطينهم في أماكن الشتات. وهذا التوطين لطالما نادى به المسؤولون الإسرائيليون علناً.
وتصفية «الأونروا» هي السبيل الأفضل لتصفية حقّ العودة، لأنّ المنظمة تبقى اليوم الشاهد الوحيد على وجود شعبٍ اسمه «الشعب الفلسطيني». فهي أنشئت في العام 1949، أي بعد النكبة مباشرة، بموجب قرار دولي اتخذته الجمعية العامة للأمم التحدة، ويحمل الرقم 302، لتعمل كوكالة مختصّة بالشعب الفلسطيني. ويجري تجديد ولايتها كل 3 سنوات، «حتى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية».
وقد عرَّفت «الأونروا» اللاجئين الذين يستحقون المساعدة بأنهم أولئك الذين كانوا يقيمون في فلسطين بين أول حزيران 1946 و15 أيار 1948، والذين فقدوا منازلهم ومواردهم في حرب الـ48، هم وأولادهم.
وهكذا، فإنّ نجاح المسعى الإسرائيلي لإنهاء خدمات «الأونروا»، سيؤدي إلى إحالة البقية الباقية من النازحين الفلسطينيين إلى المفوضية العليا للاجئين، فتخسر القضية الفلسطينية خصوصيتها. وسيجري ضمّ هؤلاء إلى لاجئي سوريا وسائر الدول التي تدور فيها حروب تهجيرية، عبر العالم. وسيفقدون وثيقة دولية لا تقدّر بثمن تعترف بقضيتهم وحقّهم في العودة.
وفي الموازاة، ستكون هناك تداعيات خطرة على البلدان المضيفة، وأبرزها لبنان، حيث العواقب تضاف إلى عواقب النزوح السوري. وفوق 1.5 مليون سوري، يتحمّل لبنان أعباء قرابة 0.5 مليون فلسطيني. وفي الحالين، السورية والفلسطينية، لا أفق واضحاً لعودة النازحين، وإن اختلفت الظروف والمبرّرات.
فهناك العبء الديموغرافي والاجتماعي، كما العبء الأمني. وفي العام 2018، بقي التحدّي هو الحفاظ على استقرار المخيمات وجوارها اللبناني. فهذه المخيمات تحتضن حالات أمنية خطرة أحياناً، خصوصاً بعد اندلاع الحرب في سوريا وتدفق الكثيرين منها إلى المخيمات.
وكذلك، تنعكس خلافات القوى الفلسطينية الأساسية كـ»فتح» و»حماس» في الأراضي الفلسطينية توتراً وصدامات في مخيمات لبنان، ولا سيما عين الحلوة، كما جرى قبل أشهر بعد محاولة اغتيال رئيس الوزراء الفلسطيني في غزة. كما أنّ مخيم الميّة وميّة شهد أعنف المواجهات بين «فتح» و»انصار الله»، ما زرع الرعب في هذه البلدة اللبنانية التي يطالب أهلها بتوفير الحماية لهم من أيّ مغامرة يدفعون هم ثمنها.
وفي ظل الهواجس من تصفية «الأونروا» وتمرير التوطين، يتساءل كثيرون عن خلفيات إصدار الإحصاء «العجيب» في 2017، والذي استنتج أن النازحين الفلسطينيين في لبنان يقاربون الـ174 ألفاً، خلافاً لكل التقديرات وحتى قيود «الأونروا». ويسأل العديد من المتابعين: هل في الأمر تَسرُّعٌ أم رغبةٌ في تصغير حجم المشكلة، تسهيلاً للتوطين!؟
وفي الخلاصة، يهتزّ لبنان كيانياً بنحو مليوني نازح، أي 50% من أصل سكانه الـ4 ملايين. وهذا الأمر يبدو خطراً جداً، خصوصاً أنه يتزامن مع اهتزاز كيانات الشرق الأوسط كلّها على وقع الحروب وتكريس المعادلات الجديدة ومناطق النفوذ الإقليمية والدولية.