لا بد من أن يعرف اللبنانيون أن للبنان خصوصيات تفرض ذاتها ويجب أن تفرض ذاتها في مقاربة إستحقاقاته السايسية والدستورية، ففي أغلب بلاد العالم، حيث يرتكزالإقتصاد على قطاعات إنتاجية كبرى، تقف حدود تأثير المؤسسات السياسية والدستورية ووجودها أو تعرقلها ، على الحركة الإقتصادية عند نسب ضئيلة، لأن الإنفاق الحكومي في الإقتصاد محدود، والقطاعات الإنتاجية تدور عجلتها بلا توقف، والمؤسسات الإدارية للدولة تؤدي خدماتها التقليدية لحساب الإقتصاد، والقلق الوجودي الذي يكبح الإستثمار غير موجود، أما في لبنان فالعكس هو القائم، حيث القطاعات الإنتاجية ضعيفة بحجم تأثيرها الإقتصادي، والقطاعات الكبرى التي تحرك عجلة الإقتصاد تتوزع بين ما تنفقه الدولة وتضخه في شرايين الدورة الإقتصادية وبين القطاعات التي توصف بالجبانة، كالإستثمارات العقارية والإستهلاكية والخدماتية، وهي ترتبط بالثقة التي ترتبط في لبنان مباشرة بالإستقرار السياسي، الذي تشكل المؤسسات الدستورية علامة حضوره .
يهتم الإقتصاديون في بلاد العالم بمضمون البرامج الإقتصادية للحكومات، ونظرتها للضرائب والإعفاءات والحوافز، لأن لهذه العناصر دور مفصلي في هيكلة القطاعات الإقتصادية وخلق الفرص الإستثمارية ، بينما يدرك اللبنانيون إستحالة حدوث مفاجآت في البرامج الحكومية على هذا الصعيد مهما كان شكلها وتكوينها وكيف ما كانت توازناتها، فمثل هذه التحولات الكبرى تحتاج وفاقاً وطنيا أكبر من حجم القرارات الحكومية التقليدية، ليصير ما يعني اللبنانيون من حكوماتهم ثلاثة اشياء، مبدأ وجود الحكومة، ودرجة كفاءة الوزراء في الإمساك بملفات وزاراتهم وإدراكهم لمتطلباتها، بالمعنى التقني والقانوني والإداري، وبذلهم وقتا وجهد لتحسين الأداء الوظيفي فيها، ومستوى النزاهة التي يوحي بها الوزراء، ودرجة الثقة بإبتعادهم عن الممارسات القائمة على المحسوبية في التعيينات والتوظيف، والمحاصصة في التلزيمات والصفقات على حساب الكفاءة والمعايير الفنية والكلفة المالية وجدواها، لكن الهم أولا أن تنوجد الحكومة .
إن مجرد وجود حكومة في لبنان يوحي بأن لا أزمات كبرى على الصعيد السياسي ، ويمنح الإقتصاد جرعة من التفاؤل والثقة، فيفرج أصحاب الأموال عن أموالهم نحو الأسواق، وينطلق الناس نحو الإنفاق، وتطلق الدولة أموالها في شرايين الدورة الإقتصادية، عبر التلزيمات والمشاريع، فيتراجع الإنكماش والركود والجمود، ولأن الإقتصاد دروات مترابطة، فإن كل المهن تتحرك بفعل هذا النشاط المرتبط بالثقة .
على سبيل المثال، وبالرغم من غياب المراجع الإحصائية الدقيقة في لبنان، وتحول الرقم في كثير من الأحيان إلى وجهة نظر، يمكن الإكتفاء بثلاثة نماذج عن الخسائر، الأول هو ما تقوله تجمعات رجال الأعمال اللبنانيين عن أن كل شهر تأخير بولادة الحكومة قد رتب تراجعا بنقطة نمو تعادل 400 مليون دولار خسرها الإقتصاد، أي ما يقارب الثلاثة مليار دولار حتى اليوم، والثاني هو المؤشر الإقتصادي العام لدى مصرف لبنان، الذي سجل في تشرين الثاني من العام المضي تراجعا
بنسبة 8% عن ذات التاريخ في العام 2017، بدلا من تحقيق نسبة نمو بين 2و3% ، ما يعني تراجعا فعليا يزيد عن 10% وهو ما يمثل قرابة تراجع ، والثالث هو تراجع التصنيف الإئتماني للبنان لدى مؤسسة موديز من مستقر إلى سلبي، وهو ما رتب بصورة مباشرة أو غير مباشرة إرتفاعا في أسعار الفائدة بكلفة إضافية تقدر حسب مصادر مصرفية بملياري دولار عن الفترة المنقضية بدون وجود حكومة، وهو ما إعتبرته موديز السبب الرئيسي لتعديل تصنيف لبنان، وإذا أضفنا إلى هذه المؤشرات، التراجع الذي بلغ حدا موجعا في السياحة والجمود الكبير في قطاع العقارات، والتراجع الإستهلاكي في كل المجالات، تمكنا من القول أن كلفة تقارب العشرة مليارات دولار قد تسبب بها الـأخر بتشكيل الحكومة، وهي كلفة ستتصاعد بمتوالية هندسية بعدما ظهرت الأزمة الحكومية كأزمة مستعصية، وفوق كل ذلك تتراجع ثقة الجهات الدولية المانحة في مؤتمر سيدر، وبدأ بعضها يتحدث عن إعادة النظر بلإلتزاماته إذا إستمر التعثر اللبناني، وبعضها الآخر يشكك بقدرة لبنان القيام بالإلتزامات التي نصت عليها مقررات سيدر في ضوء ما أظهره الوضع السياسي من تعقيدات، وهنا ندخل في خسائر من نوع آخر، هي خسارة الفرص وتقديرها بالأرقام يفوق التصور، لأن هذه الفرص تشكل آمالا يحتاجها الإقتصاد لإستعادة الحياة، وفوق كل هذه السلبيات تأتي النتائج المتفاقمة لأكلاف ملف النازحين السوريين ووقف الإنفاق في مؤسسة الأنروا على اللاجئين الفلسطنيين، وهي مشاكل تحتاج حكومة لمواجهتها والتعاون مع المجتمع الدولي للمضي بحلول فاعلة وعاجلة لها ، وكلفة النازحين وحدها وفق البنك الدولي تقدر بمليار ونص مليار دولار سنويا على لبنان، والخطير هو ما بدأت تظهر ملامحه من إقفال مؤسسات وإعلان إفلاسها ، وما تسجله المقاصة بين المصارف من تزايد في الشيكات المرتجعة ، وبالتالي دخول المؤسسات الإقتصادية مرحلة الخطر الحقيقي، عدا عن المشاكل الكبرى في المالية العامة، والتي باتت تطل علينا نتائجها بشكل منتظم مع كل إتسحقاق لتمويل شراء الفيول لكهرباء لبنان، أو إستحقاق دفع الرواتب لموظفي الدولة ، أو ما نشهده من مخاوف من أكلاف سلسلة الرتب والرواتب .
لأن كل شيئ يقول أننا ذاهبون إلى الإنتحار لا بد من رفع الصوت عاليا للفت النظر والتنبيه من بلوغ الأسوا، حيث لا ينفع الندم .
إن التناقض بين النظرة السياسية للحكومة والنظرة الإقتصادية نحوها يجب أن يلقى إهتمام المسؤولين السياسيين، حيث يشكل إهتمامهم بتفاصيل الحكومة وتوازناتها وحصص الأطراف السياسية منها، ونوعية الحقائب الخدماتية والسيادية ولمن تعود طائفيا وسياسيا، الأولوية عند السياسيين، وهم يفعلون ذلك لقناعتهم بأنهم بتمسكهم بشروط تتصل بهذه العناصر يعبرون عن مصالح ناخبيهم الذين منحوهم التفويض عبر الإنتخابات، لكن الحقيقة التي يجب أن ينتبه لها السياسيون، هي أن الزمن الذي ينفقونه في التفاهم على تشكيل الحكومة له كلفة عالية على الإقتصاد الذي ترتبط به مصالح ناخبيهم مباشرة، ويدفعونها من نمط حياتهم كل يوم، وصوت أنينهم وشكواهم يرتفع، ما يستدعي بعد مرور كل هذا الوقت الضائع في مفاوضات تشكيل الحكومة، أن تنخفض السقوف السياسية للجميع بما يتيح تلاقيها في نقطة وسط تتيح الولادة السريعة للحكومة ، لأن الإقتصاد يدخل المراحل الحرجة والخطرة، وبات يستحق أن تتطابق أولوية السياسة والإقتصاد، ويكون العنوان، أولوية أن تكون لنا حكومة اليوم قبل الغد .