يساورني وأنا أتابع أخبار العالم شعور مقلق حين أرى التوجهات الدوليّة الكبرى تصبّ دائماً في إمكانية تجاوز الأمور الصغيرة وحتى الاختلافات العميقة أحياناً من أجل التركيز على الحركة الأكبر والأهمّ للأحداث إقليمياً ودولياً، في حين أرى عندما أتابع توجهات الدول والحركات والأحزاب في البلدان العربيّة أنها تنتقل دوماً إلى الأحداث الصغرى وتتابعها بحذر ودقة شديدين تاركة الحبل على غاربه للأحداث الكبرى التي تقرّر المصير وتهدّد الوجود وتصنع المستقبل. والجميع يعلم أن ما يصنع حركة التاريخ هي الإستراتيجيات التي تتحكّم بالأحداث الكبرى. فرغم كلّ اللغط مثلاً في الولايات المتحدة حول الانسحاب الأميركي من سورية الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورغم استقالة وزير الدفاع الأميركي والمبعوث الأميركي احتجاجاً على ذلك، وتحرّك الموالين لإسرائيل في الإعلام والكونغرس ضد القرار، ها هو وزير الدفاع الأميركي الجديد يلتقي رئيس الأركان جوزيف دانفورد ومستشار الأمن القومي جون بولتون والمبعوث الخاص إلى سورية جيمس جيفري الذين غادروا الولايات المتحدة في زيارة إلى تركيا والكيان الصهيوني لبحث ترتيبات الانسحاب وتأثيره في المنطقة. ولاشكّ أن تركيا والكيان الصهيوني يتشاطران التنسيق من خلال الولايات المتحدة ومعها في محاولة لرسم التحالفات الإقليمية الجديدة ولعب دور في تحديد هوية مستقبل هذه المنطقة، بما يضمن إنهاء الدور الإقليمي للدول العربيّة كافة وتحويل العرب إلى مجرد دول تابعة لها وسوق لتصريف بضائع الدولتين ومورد للنفط والغاز بأرخص الأسعار، وربما من هذا المنطلق نفسه تنصح دولة عربيّة الرئيس السوداني أن يطبّع مع الكيان الصهيوني كي تنتهي الأزمة الحالية في بلاده، أي إن البعض قد سلّم بأن الكيان الصهيوني هو سيد المنطقة العربيّة وهو القادر على تحريك أو إخماد أي تحركات أو شغب أو عنف داخل البلدان العربيّة ذاتها وأنّ «إسرائيل» تمتلك عصا موسى لتبقي من تريد وتطيح بمن تريد من السلطة في البلدان العربيّة. ومن هذا المنظور نفسه أيضاً يحضر رئيس وزراء الكيان الصهيوني حفل تنصيب الرئيس البرازيلي وتتسرب الأنباء عن إمكانية نقل السفارة البرازيلية إلى القدس وإمكانية إقامة قاعدة عسكرية للولايات المتحدة على أرض البرازيل في محاولة أخرى للانقضاض على أميركا الجنوبية وإعادتها إلى بيت الطاعة الأميركي علماً أن الكيان الصهيوني لا يمتلك أياً من عناصر القوّة في البرازيل في حين ينحدر أكثر من 10 ملايين برازيلي من أصول سورية ولبنانية ويحتلون مواقع اقتصادية واجتماعية مهمة جداً في دولة البرازيل.
في الوقت الذي يجري فيه كلّ هذا تشهد المنطقة استعار نار حرب غير معلنة ولكنّها مستمرة وأزلية بين فتح وحماس الرازحتين هما والشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعين عاماً تحت وطأة استعمار عنصري بغيض يقتل ويقمع ويسجن يومياً المزيد والمزيد من العرب، في حين تشهد الدول العربيّة من أقصاها إلى أدناها انغماساً بأمور يومية بشكل ردود فعل خالية من التخطيط ومتابعة لمجريات أحداث لا يمكن تغييرها إلا من خلال وضع إستراتيجيات واضحة ومستدامة ووضع أولويات للبدء بالأهم والانتقال منه للمهمّ، ومن ثمّ للأقل أهمية بدلاً من الجري وراء الحدث ومحاولة تغيير دفة هنا وأخرى هناك لا تغيّر في الواقع شيئاً بل تهدر أعظم عنصر يمتلكه الإنسان والدول على حدّ سواء ألا وهو عنصر الزمن الذي يهدره العرب دون حساب وكأنّهم في انتظار منقذين قادمين من كوكب آخر يقومون بالمعجزات لمصلحة العرب بين عشية وضحاها. ليس لأن العرب في حال أسوأ بكثير من الآخرين، ولكن لأن أسلوب وآليات العمل المتبعة في معظم الأمور لا ترقى إلى مستوى التحدّي الذي يواجهونه وليست قادرة على حلّ المسائل الجوهرية والانتقال بالواقع المعاش من حال إلى حال. لقد كتبنا عن حالة التفكك في اتخاذ القرار التي تعاني منها الولايات المتحدة وأوروبا إلى حدّ بعيد ولكن ذلك لا يعني الاستسلام لهذه الحالة بل نشهد الخروج منها ومحاولة تطويقها من خلال التركيز على إستراتيجيات أكبر وأعمق وتعمل على صياغة المستقبل على المدى البعيد، بحيث تبدو أيّ خلافات راهنة أو مستعصية حتى قابلة للحلّ ضمن منظور إستراتيجي بعيد الأمد.
تنشغل وسائل الإعلام العربيّة بقمة اقتصادية هنا وقمة عربيّة هناك وشيكتي الحدوث ومن سوف تتمّ دعوته وكيف ستكون القمة وشكلها وأفرادها علماً أن القمم الأخرى والتي عقدت على مدى أكثر من نصف قرن مضى لم تُؤتِ أكلها الاستثنائية لأي بلد عربيّ أو لهذه الأمة، فلماذا ينشغل العرب بصيغ لم تبرهن أنها يمكن أن تحدث فرقاً في حياتهم السياسية أو الاقتصادية أو المجتمعية في حين يطمح الشعب العربيّ في مختلف أقطاره للعيش الكريم في بلاده ولاحتواء شبابه وشاباته وإقناعهم أن بلادهم توفر لهم فرص عمل وإبداع وأن الهجرة ليست السبيل الوحيد لتحقيق التميّز والتفوق وتحقيق الذات. كما يطمح الأهل إلى وجود نظم تعليمية تحقّق لأبنائهم كلّ ما يريدونه من تحصيل علمي وفرص عمل واستقرار، حيث ولدوا وحيث عاش الآباء والأجداد. وإذا ما تابعنا البحث في مختلف الاختصاصات وتابعنا مناقشة كلّ العوامل التي تقود إلى الاستياء الشعبي في معظم بلداننا العربيّة ربما نكتشف أن السبب الأساسي هو غياب آلية وضع إستراتيجيات نيّرة وبعيدة الأمد تحدّد نقطة البداية كما تحدّد طبيعة المسار والهدف الذي يعمل الجميع من أجل الوصول إليه. حينذاك فقط تنتفي الانتماءات السياسية والاجتماعية والدينية المتعددة للأشخاص وتنضوي كلّ هذه الانتماءات تحت لواء انتماء قومي واحد ألا وهو الوطن ومصلحته والتي تكون دائماً العليا وقبل كلّ اعتبار.
لقد توصل الغرب إلى ذلك كما توصل الشرق أيضاً في نصف القرن الأخير، فبنوا المؤسسات العابرة للطوائف والأعراق والقوميات والعابرة للمراحل أيضاً ولأعمار القائمين عليها، ولذلك فمهما نشاهد من خلافات واختلافات في الغرب والشرق تضرب عرض الحائط برأي بعض المسؤولين وتدفعهم إلى الاستقالة ومغادرة العمل تنتج المؤسسة أشخاصاً آخرين ملتزمين بالمسار الوطني العام ودفعه إلى الأمام. أي إن الطبيعة البنيوية للبلاد تصبح طبيعة مؤسساتية لا تهتز أبداً لمغادرة شخص أو قدوم أشخاص، وهذا ما لم ينتجه لحد اليوم كلّ دول الوطن العربيّ منذ استقلال أقطاره وحتى اليوم، وليس من الواضح إذا كان التشخيص لواقع الحال يركز على هذه النقطة أو يدرك أنها جوهرية. كي يتمّ الإمساك بهذه النقطة الجوهرية لابدّ من أن توضع المصلحة الوطنية فوق كلّ اعتبار ولابدّ أن تعمل النخبة الفكرية والسياسية وذات الخبرة على وضع الإستراتيجيات المتوسطة والبعيدة المدى ولابدّ من وضع جدول للأولويات يؤكّد معالجة الأهمّ ومن ثمّ الانتقال إلى المهمّ، ولابدّ من أن نتعلم من مسار الدول التي حقّقت كل هذا ونكشف بكلّ جرأة وصراحة عوامل الضعف والتفكك التي منعت العرب من السير على هذا الطريق. أي لابدّ من ورش تفكير تفكر وتدرس وتحلّل وتقرّر قبل أن يبدأ العمل على التنفيذ فالتشخيص والدراسة والتحليل والتخطيط هي المراحل الأهمّ من أجل تنفيذ قادر على الارتقاء بالواقع ورفع مستواه وإحداث فرق حقيقي في حياة العرب.