قبل أيام من الموعد المفترض للقمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية التي يفترض أن يستضيفها لبنان، انضمّت القمّة إلى قائمة الملفّات الخلافيّة بين اللبنانيين، على وقع اقتراح رئيس مجلس النواب نبيه بري تأجيلها، حتى لا تأتي "هزيلة" في ظلّ عدم تشكيل حكومة، وما بدأ يتسرّب عن مساعٍ لتعطيلها في حال عقدت.
ومع أنّ بري حرص على نفي أن يكون موقفه موجّهاً ضدّ رئيس الجمهورية ميشال عون، معتبراً أنّ "من السخافة تصويره كذلك"، فإنّ كثيرين قرأوا فيه استهدافاً مباشراً للرئيس، الذي سبق أن أكّد هذا الأسبوع أنّ القمة حاصلة في موعدها، وأنّ عدم تشكيل حكومة جديدة ليس سبباً لتأجيلها، باعتبار أنّ حكومة تصريف الأعمال كاملة الصلاحيات.
وأبعد من الاستهداف أو عدمه، تُطرَح علامات استفهام بالجملة عن خلفيّات موقف بري، الذي تشير معطيات عدّة إلى أنّه يتخطّى أزمة الحكومة، وبالتالي عمّا إذا كان جائزاً القول إنّ القمّة الاقتصادية أعادت تفجير العلاقة بين رئيسي الجمهورية والبرلمان، منهية بذلك "الهدنة" المعمول بها بين الجانبين منذ فترة غير قصيرة...
أيّ خلفيّات؟!
منذ أسبوعين، تتسرّب معلومات بصيغة "المصادر" عن إمكان تأجيل القمة العربية التنموية المفترض عقدها في لبنان، تارةً لأنّ لا حكومة أصيلة في لبنان، وأنّ حكومة تصريف الأعمال محدودة الصلاحيّات، ما يُفقِد القمّة قيمتها، وطوراً لأنّ دولاً عربيّة عدّة تضغط في هذا الاتجاه، تحت طائلة مقاطعة القمّة.
وفيما كان لافتاً ردّ رئيس الجمهورية مباشرة على الإشاعات خلال استقباله الممثل الشخصي للرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، الوزير العميد الأزهر القروي الشابي هذا الأسبوع، معلناً اكتمال التجهيزات التقنيّة واللوجستيّة لاستضافة القمّة، "بقّ" رئيس مجلس النواب البحصة، مقترحاً تأجيل القمّة لبعض الوقت.
برّر بري موقفه الداعي للتأجيل بعدم تشكيل حكومة، ما سيجعل القمّة هزيلة ودون المستوى، وسيضع لبنان في موقفٍ محرجٍ أمام ضيوفه العرب، متحدّثاً عن "شبه مقاطعة" للقمّة التي سيحضرها موفدون دون مستوى رؤساء الحكومة، مع أنّ الدوائر المعنيّة في القصر الجمهوري لفتت إلى تأكيد أكثر من سبعة قادة عرب حتى الآن مشاركتهم في القمّة على المستوى الشخصي.
وإذا كان موقف بري مبرّراً، باعتبار أنّ استضافة لبنان للقمّة من دون أن يكون قد شكّل حكومة، هو مهينٌ للبنان الدولة قبل كلّ شيء، فإنّ المهين أكثر، برأي من لا يشاطرونه الرأي، يبقى أن يتنصّل لبنان من استحقاقٍ بات مسؤوليّة ملقاة على عاتقه، خصوصاً أنّ القمّة مقرّرة منذ وقت طويل، وتمّ الإعلان عنها خلال القمّة العربية الأخيرة التي عقدت في المملكة العربية السعودية، ومن غير الجائز إعلان لبنان عدم قدرته على تنظيمها قبل أيام من موعدها.
أين المصلحة؟!
وأبعد من الحكومة وتشعّباتها، أزمة أخرى تفرّعت من القمة تمثلت في دعوة ليبيا إلى القمّة، ما رفضه بري على خلفيّة قضيّة إخفاء وتغييب الإمام موسى الصدر، فيما لم يتردّد جمهور "حركة أمل" في إعلان "التعبئة" عبر وسائل التواصل، ملوّحين بـ"التصعيد" لمنع الوفد الليبي من الدخول إلى لبنان في حال عقد القمة. وهنا أيضاً، يقول من لا يشاطرون برّي الرأي إنّ الموقف "غير موفّق"، أولاً لأنّ بري يدرك أنّ ليبيا عضو في جامعة الدول العربية، وبالتالي دعوتها أو عدم دعوتها ليس خياراً للبنان حريّة القرار فيه، وثانياً لأنّ ليبيا سبق أن دُعيت إلى القمة العربيّة التي عقدت في لبنان في العام 2002، ويومها لم تكن الأمور أفضل، بل إنّ نظام العقيد الراحل معمر القذافي، المسؤول عن إخفاء الصدر، كان هو الحاكم.
وإذا كان السؤال إزاء كلّ ذلك عن "المصلحة" من الضجّة التي يصفها البعض بـ"المفتعلة" حول القمّة اليوم، فإنّ الجواب يكمن برأي كثيرين في السبب الحقيقي خلف كلّ ذلك، وهو سوريا أولاً وأخيراً. وفي هذا السيّاق، ثمّة قناعة راسخة لدى شريحة من اللبنانيين بأنّ فريق "8 آذار"، ومن خلفه النظام السوري، لم يكن راضياً عن تبرير لبنان الرسمي ممثلاً بوزير الخارجيّة في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل عدم دعوة سوريا إلى القمّة، بأنّه ليس صاحب القرار في هذا الشأن، وأنّ لا قدرة له على دعوتها طالما أنّ الجامعة العربية لم تقرّر بعد الرجوع عن قرار تعليق عضويتها في صفوفها.
وإذا كان صحيحاً أنّ طرح موضوع إعادة إعمار سوريا على جدول أعمال قمّة تغيب عنها سوريا لا يستقيم، فإنّ محسوبين على "العهد" يستغربون مواقف برّي التي انتقلت من دائرة "التسريبات" إلى الحديث العلني والواضح، ما ينبئ بتصاعد الحركة الاعتراضيّة على القمّة. ويتساءل هؤلاء، أيّ مصلحة للبنان في "تطيير" القمّة في هذا التوقيت، علماً أنّ لبنان يمكن أن يستفيد منها على أكثر من صعيد؟ وهل يتحمّل "العهد" وحده مسؤوليّة عدم تشكيل الحكومة قبل القمّة، علماً أنّ بري نفسه يقرّ بأنّ "التيار" أكثر المبادرين على خطّها، فيما تغيب "التنازلات" عن الأطراف الأخرى، وإن كان "الحلّ البسيط" برأي برّي يقوم على "تنازل حصري" من كيس رئيس الجمهورية و"التيار الوطني الحر"؟.
ويضع المحسوبون على "العهد" المواقف المعترضة على انعقاد القمّة في إطار محاربته أولاً وأخيراً، باعتبار أنّه سيُسجَّل عليه أنّه لم ينجح في مجرّد استضافة قمّة كان يمكن أن تشكّل "فرصة" بالنسبة له، علماً أنّ من غير الممكن اتهام "العهد" بأنّه يرفض تطوير العلاقات مع سوريا، خصوصاً أنّه سبق أن أعلن مراراً وتكراراً أنّ الحكومة المقبلة يجب أن تكون حكومة تطبيع العلاقات مع سوريا، بل ذهب الوزير باسيل بعيداً في القول إنّ الحياة السياسية بين سوريا ولبنان ستعود، إلا أنّه لا يرى مصلحة من "افتعال" معركة في غير مكانها اليوم، خصوصاً أنّ قطار العودة إلى سوريا قد انطلق.
"اشتباك" جديد
بمُعزَلٍ عن الخلفيّات التي انطلق منها بري ليقترح تأجيل القمّة التنمويّة العربيّة، فإنّ ثمّة خشية حقيقية من أن يؤدّي موقفه، وما تبعه من ردّات فعل خصوصاً في صفوف جماهير "حركة أمل"، إلى "اشتباك" جديد بينه وبين رئيس الجمهورية، ومن خلفه "التيّار الوطني الحرّ".
ويقول المعنيّون إنّ موقف بري يأتي تتويجاً لمواقف أخرى لم تنزل برداً وسلاماً في صفوف "التيّار"، خصوصاً لجهة تأكيده الدائم أنّ حلّ الأزمة الحكوميّة بيد الرئيس عون وحده، ومن كيسه حصراً، فضلاً عن تلميحه المتكرّر بأنّ الوزير باسيل هو الذي يشكّل الحكومة، متعدّياً على صلاحيات رئيس الحكومة المكلّف.
وبين هذا وذاك، يبقى الأكيد أنّ "ضبط" أزمة "القمّة" يجب أن يشكّل الأولوية اليوم، أياً كان المسار الذي ستّتخذه، لأنّ أيّ "خطأ" يُرتكَب قد يرتقي لمستوى "الخطيئة" التي سيكون لبنان المتضرّر الأكبر منها...