ليس خفياً على احد ان الواقع الجغرافي للبنان وسوريا، يشكل المنفذ الاهم للخارج للولوج الى احد البلدين وزعزعة استقراره، وهذا ما تبيّن من خلال الاحداث التاريخية التي شهدها البلدان، ولو ان المسألة كانت دائماً تنبع عبر التدخل في سوريا وتصبّ في لبنان. خلال السنوات الماضية التي كانت الحرب في ذروتها داخل الاراضي السورية، كان لبنان في حال عدم استقرار امني واقتصادي ولكنه نجح في تخطي الصعوبات بمساعدة خارجية، واليوم بعد ظهور مؤشرات عودة الزخم السياسي والدبلوماسي الى سوريا، يبدو ان على لبنان ان يدفع الثمن ايضاً من خلال عدم استقرار سياسي.
هي "نقمة السياسة" للوجود السوري على الحدود اللبنانية (التي توازي "نقمة الوجود الاسرائيلي عسكرياً)، ونقمة جنوح بعض اللبنانيين الى تفضيل سوريا على لبنان، ولكن النقمة الاكبر ستكون بعد ظهور ملامح الوضع الجديد لسوريا التي ستتغير ملامحها حتماً بفعل التدخّل الدولي فيها، ولن يكون مستغرباً حصول تغييرات في النظام السياسي وطريقة الحكم وفي الواقع الميداني الذي سيكون اقرب الى الفدراليّة غير المعلنة، وهي معطيات لا تحتاج الى "التنبؤ" بقدر ما هي قراءة موضوعية لمجريات الامور. في الواقع الحالي، ها ان لبنان قد وقع في المحظور، وبعد ان دفع ثمن الحرب في سوريا، ها هو يدفع ثمن بداية التسوية فيها من رصيد استقراره السياسي والذي يؤثر حتماً على استقراره الاقتصادي، فيما الاستقرار الامني لا يزال حتى اللحظة، بعيداً عن الخطر الى ان يقرر الآخرون عكس ذلك، وهو امر لا ينتقص من قدرة الجيش والاجهزة الامنية على ضبط الاوضاع، انما يدلّ على مدى قدرة الخارج على دفع الامور نحو التصعيد والخطورة حين يريد ذلك، وهي حالة تتعرض لها كل دول العالم وليس فقط لبنان، على الرغم من أنّ "خربطة" الامور في لبنان اسهل بكثير من غيره من دول العالم.
هناك من يقول ان الوضع اللبناني سيبقى على حاله الى ان تصطح الامور في سوريا، وهذا يعني ان لبنان سيبقى في دائرة القلق و"الموت السريري" الى ان تتم التسوية التي لن تكون لصالحه او لصالح سوريا حتى، وسيقبل بها مرغماً كما قبل بالكثير من التسويات التي كانت تحصل على ارضه، مع فارق بسيط هذه المرة وهي ان التسوية لن تحصل عنده ولن يكون معنياً مباشرة بها بل بحكم الواقع الجغرافي فقط.
كيف لهذا البلد الصغير ان يرضي مصالح وغايات الدول الكبرى والدول الاقليمية التي تتصارع على النفوذ في المنطقة وتعتبره ركناً اساسياً لتحقيق الاهداف؟.
اللافت انه حين تمت التسوية السياسية واتفق الجميع على مخرج واحد للازمة، نعِم لبنان بفترة (قصيرة) من الهدوء والاستقرار، ولكن الانشقاق بين الاطراف اللبنانية سرعان ما اطلّ برأسه بسرعة كبيرة، وهو يعلم انه - وللاسف- موضع ترحيب قسم مهم من اللبنانيين الذين يعملون على تبنّيه وايوائه. قد تصطلح الاوضاع في سوريا وتعود الى طبيعتها مع اختلاف في الشكل والمضمون لن يؤثر على الاستقرار، ولكن لبنان عليه ان يدفع ثمناً سياسياً ودبلوماسياً باهظاً ليعود الى "الاستقرار المقنّع" الذي سيُفرض عليه بقوة خارجيّة، وكل ذلك من اجل اقرار التسوية في سوريا والتي لن تكون دائمة بطبيعة الحال، بل ستختلف مدّة حياتها وفق اختلاف الظروف والتطورات والادارات المتعاقبة في كل من اميركا وروسيا. هي نظرة تشاؤميّة بالفعل، وتستند الى تجارب مؤلمة عانى منها اللبنانيون، وتعلّموا من خلالها أنّ الاستقرار الكامل على الصعد كافة هو ميزة لا يمكن ان تستمر، طالما بقي لبنان في بقعته الجغرافية هذه وطالما بقي بعض اللبنانيين غير مقتنعين بهويّة هذا البلد واستقلاله، ويركبون الامواج التي تضربه من الجنوب او من الشمال، فيما أمواج البحر المتوسط باتت غير مؤثرة.