لم تزل ارتدادات القرار الأميركي بالانسحاب من سورية نشطة بسبب الجدية الأميركية في تنفيذ قرار الانسحاب الأمر الذي أصاب حلفاء أميركا في المنطقة بالخوف والهلع، فالعدو الإسرائيلي وصف القرار بالزلزال، أما أوروبا فقد عبرت عن استغرابها ما دفع الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون للقول: إن الحليف يجب أن يكون مصدراً للثقة وليس مصدراً للقلق، أما أكراد أميركا فقد وصفوه بالطعنة من الخلف، والرئيس التركي رجب أردوغان الذي كان فرحاً بالهدية الأميركية سرعان ما اكتشف بأن الهدية الأميركية هدية ملغومة لا يمكنه درء خطر انفجارها إلا بالتنسيق مع السلطات الرسمية السورية وبرعاية روسية.
الارتباك الأميركي بدا واضحاً وذلك نتيجة تعرض الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى ضغوط أميركية داخلية معترضة على سرعة تنفيذ قرار الانسحاب داعية ترامب إلى التراجع عن القرار أو إلى التريث في تنفيذه أقله ريثما تتم تهيئة الأجواء وطمأنة حلفاء أميركا في المنطقة. استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتس جاءت نتيجة إصرار ترامب على تنفيذ قرار الانسحاب ورفضه الإبطاء في تنفيذه، معللاً ذلك بأن سورية رمال متحركة ومسرح للموت وأن الجنود الأميركيين باتوا يواجهون خطر الموت هناك، ملقياً اللوم على الحزب الديمقراطي وإدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حيث قال: نحن لا نريد وجودنا في سورية، إلا أن أوباما وإدارته اتخذوا القرار الخاطئ بإرسال جنودنا إلى هناك وأضاف: علينا الاعتراف بالنفوذ الروسي القوي في سورية.
بدا ترامب بصورة المتنصل من الهزيمة التي أصابت أميركا وحلفاءها في سورية ملقياً بالمسؤولية على أوباما وإدارته في الحزب الديمقراطي، ما يخول ترامب الحد من الهزيمة الأميركية وتعزيز نفوذه في حربه التي يخوضها ضد الحكومة العميقة والانطلاق نحو الفوز بولاية ثانية في البيت الأبيض.
وبين ضغوط حلفاء أميركا بالمنطقة وضغوط الحكومة العميقة اضطر ترامب للإعلان عن تمديد فترة الانسحاب إلى 100 يوم بدلاً من 60 يوماً، مع ملاحظة عدم انتفاء أمر الانسحاب والإصرار على تنفيذه الأمر الذي يظهر إرباكاً في تصريحات كل من وزير الخارجية الأميركية مايك بامبيو إضافة إلى تصريحات مستشار الأمن القومي جون بولتون، فالأول نفى النية الأميركية بالانسحاب من المنطقة معلناً البقاء فيها حتى القضاء على آخر مقاتل من تنظيم داعش الإرهابي وضمان عدم تهديد الكيان الصهيوني، فيما الثاني يقول من تركيا إن أي انسحاب أميركي من سورية سيأخذ بعين الاعتبار ضمان أمن الأكراد السوريين وعدم تهديد تركيا.
العدو الإسرائيلي في هذه الفترة تعمد اختلاق موضوع الأنفاق مع الحدود الجنوبية اللبنانية للقول إننا في إسرائيل نواجه تهديداً جدياً من حزب اللـه اللبناني، وهو شكل من أشكال الضغط على الإدارة الأميركية بتأجيل انسحابها من سورية، الأمر الذي دفع ترامب للقول لن أرسل قواتنا لحماية غيرنا من دون مقابل ومن لا يريد دفع الفاتورة عليه المنازلة بنفسه.
حلفاء أميركا في المنطقة أصيبوا بالإرباك الشديد، فالدول التي شاركت ومولت المؤامرة الكونية على سورية فهمت الرسالة الأميركية بأنه قضي الأمر ولا رجعة للوراء، فأسرعت بقرار العودة الدبلوماسية إلى دمشق وهو قرار الاعتراف بالهزيمة، أما الفصائل التي كانت مدعومة من أميركا فقد اتخذت قرارها بالتسابق لجني المكاسب من أجل التفاوض عليها لاحقاً مع الدولة السورية، أما تركيا التي حاولت التنصل من مقررات مؤتمر أستانا بفرز الفصائل الإرهابية فقد اضطرت للإسراع للاندفاع باتجاه الأرض السورية لحجز الكعكة الموعودة، لكن التركي فوجئ بالتحذير الروسي من مغبة المخاطرة بأي عمل عسكري في سورية بحجة محاربة الأكراد من دون تنسيق مسبق مع روسيا وسورية، وأن مثل هذه المغامرة سترتد سلباً على الجانب التركي ما اضطر أردوغان لاتخاذ قرار بتهريب الفصائل المدعومة من تركيا بهدف الضغط على روسيا وسورية من خلال اللعب على حبل تنظيم جبهة النصرة بتمكينه من السيطرة على معظم مناطق ريف حلب وذلك بهدف تعزيز وضع تركيا التفاوضي مع روسيا وإيران.
لكن حسابات أردوغان عطلتها آلة الحساب الروسية لكون الأكراد فتحوا قنوات اتصال مع روسيا للتفاوض مع الحكومة السورية التي رحبت لكن بشروط سورية بحتة.
أما المفاجأة التي لم تكن متوقعة فهي أن قادة تنظيم جبهة النصرة من الذين أدركوا حقيقة الموقف الأميركي، وتحسباً من مساومة الأتراك اتخذوا قراراً بالانفتاح والتفاوض مع الحكومة السورية وذلك لتسليمها المناطق التي يسيطر عليها التنظيم وبضمانات روسية.
إذاً فإن الدول والأدوات والتنظيمات كلهم اعترفوا بالهزيمة وأخذوا يتسابقون ويتهافتون للعودة إلى حضن الدولة السورية، حتى أردوغان نفسه لن يجد غضاضة في التواصل مع دمشق عبر القنوات الروسية معترفاً بانتصار سورية وبضرورة التنسيق مع الجيش العربي السوري لإتمام سيطرته على كامل التراب السوري تحت عنوان ضمان خطر الأكراد.
أميركا أحست بتفلت الحلفاء من السيطرة وبسرعة عودتهم إلى دمشق لحجز المقاعد في القطار السوري قبل نفاذها وأسرعت إلى اللجوء إلى سياسة الفرملة، فأرسلت إلى المنطقة كلاً من بامبيو وجون بولتون في جولة شرق أوسطية في محاولة لطمأنة حلفاء أميركا في المنطقة والإيحاء بأن أميركا لن تتخلى عنهم وأنها باقية في المنطقة إلى حين خروج آخر جندي إيراني من سورية.
إذاً أميركا ستبقى في المنطقة هذه المرة حتى خروج آخر جندي إيراني من سورية في تحول واضح بالخطاب الأميركي نحو خطر التمدد الإيراني في المنطقة، إضافة إلى خطر حزب اللـه اللبناني على العدو الإسرائيلي في محاولة لدغدغة مشاعر الحلفاء.
أما بامبيو ومن دون مقدمات فقد حوّل الخطاب الدبلوماسي الأميركي من مواجهة الإرهاب إلى عدم قبول أميركا بالتوسع الإيراني في المنطقة مضيفاً: إن حزب اللـه اللبناني يمتلك نفوذاً قوياً في لبنان وإن أميركا لن تقبل بذلك.
جون بولتون من تل أبيب سلط الضوء على إيران على اعتبارها الخطر الأول الذي يواجه إسرائيل وحلفاء أميركا من العرب وعلى الدعوة الأميركية إلى مؤتمر دولي يعقد الشهر القادم في بولندا بمشاركة العدو الإسرائيلي مع بعض الدول العربية السابحة في الفلك الأميركي الإسرائيلي، وعلى أجندته بند واحد وهو كيفية مواجهة التوسع الإيراني وخطر حزب اللـه اللبناني.
إن مثل مؤتمر كهذا في بولندا بلد السجون الأميركية السرية هو دعوة صريحة للتعاون الأمني بين بعض العرب والعدو الإسرائيلي، وأيضاً هو مؤتمر هدفه إنقاذ رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من أزمته الداخلية وخصوصاً أنه يواجه انتخابات مبكرة في نيسان القادم، إضافة إلى محاولة أميركية لطمأنة الحلفاء المرعوبين بسبب الانسحاب الأميركي من سورية بأن أميركا ما زالت تمسك بمفاصل المنطقة والإيحاء بأن أميركا مستعدة لمواجهة إيران.
مما لا شك فيه أن صمود سورية الأسطوري هو أساس القرار الأميركي بالانسحاب من سورية وأن انتصارها سيكون له ارتدادات إيجابية، الأمر الذي يمكن سورية من تغيير معالم المنطقة والانفراد بقيادتها لعقود قادمة.
إن كل الجولات الأميركية المكوكية وإرسال بوارج حربية إلى مياه الخليج والمتوسط ما هي إلا لطمأنة حلفائها في المنطقة وإيهامهم بالحماية، لكن حقيقة الأمر أن كل تلك التحركات الأميركية لا تعدو كونها عبارة عن شيكات أميركية من دون رصيد.