تنقطع "مياه الدولة" في أيار من كل عام حتى نهاية تشرين الثاني، أو أقلّه تشحّ، فتنشط عمليّة بيع المياه من الآبار الجوفيّة، وفي قدرة قادر تصبح المياه الخاصة متوافرة بكثرة والمياه العامّة معدومة، في بلد يمتلك ثروة مائيّة جوفيّة لا تقدّر بثمن بسبب عدم القدرة على حصرها واحتسابها. يقول المختصّون بطبيعة لبنان أن حوالي 70 بالمئة من مساحته مكوّنة من الصخر الكلسي الكربوناتي، التي تسمح بدخول المياه الى الجوف وتخزينها.
ما بين 20 و25 ألف بئر حُفرت في لبنان بلا أيّ ترخيص، تُسحب المياه بلا حسيب ولا رقيب، لا على النوعيّة ولا على الكميّة، يستفيدون من التخزين، ويبيعون المواطنين المياه التي هي حقّ دولتهم أيّ حقهم عبر الصهاريج التي تتسابق على التعاقد مع أصحاب الآبار في الربيع والصيف.
كان قطاع المياه يخضع لقوانين تعود لعهد الانتداب الفرنسي. في العام 2018 صدر قانون المياه في مادة وحيدة بهدف تنظيم وتنمية وترشيد واستغلال الموارد المائيّة وحمايتها من الاستنزاف والتلوث، فشدّد في مادته السادسة على أنّ المياه في جميع أشكالها، هي ثروة وطنيّة يجب المحافظة على جودتها وعلى حقوق الدولة اللبنانيّة من مجاري المياه الدوليّة. وهي تشمل المياه السطحية والمياه الجوفيّة، بما في ذلك الموجات المتقلّبة للمياه العذبة قبالة السواحل والمياه كعنصر من النظم البيئيّة البريّة والمائيّة.
لا يزال قانون المياه بحسب مستشار وزير الطاقة والمياه، خالد نخلة، بحاجة الى مراسيم تطبيقيّة لبعض بنوده، ولكن هذا لا يعني أن عمليّة منح التراخيص لحفر الآبار غير موجودة، مشيرا في حديث لـ"النشرة"، الى أن آلية تنظيم منح التراخيص صدرت منذ 9 اعوام، وشهدت تشدّدا أكثر بعمليّة الترخيص، وتقسيما لأنواعها بين تلك المنزلية والاخرى الزراعيّة، لكي تتمكّن وزارة الطاقة من إعطاء كل قطاع ترخيصه المتناسب مع الشروط، كاشفا أنه تمّ التعاقد أيضا مع شركات خاصّة للمراقبة تعدّ التقارير وترفعها للإدارة.
رغم هذه التدابير لا يزال قطاع الآبار الجوفيّة متفلّتا من أيّ رقابة، والسبب يعود بحسب نخلة الى أمرين: الأول وهو صدور تراخيص حفر من جهات غير معنيّة بهذا الموضوع، كوزارة الداخليّة، وبلديّات، واحيانا قوى أمن داخلي، وهي كلها تراخيص غير شرعيّة وغير قانونيّة، والأمر الثاني يتمثّل بعدم قدرة وزارة الطاقة والمياه على متابعة احوال كل الآبار في لبنان بسبب عدم وجود الكادر البشري الكافي، وكون الوزارة ليست ضابطة عدليّة يمكنها التحرك بحريتها، لافتا الى أنّ قانون المياه تحدث عن إنشاء "الشرطة المائيّة" وهي من الأمور التي تحتاج الى مراسيم تطبيقيّة من أجل تحقيقها.
أصبحت آلية الاستحصال على تراخيص لحفر الآبار صعبة ومعقدة، وتتم عبر مراكز "ليبان بوست" لمنع الرشاوى او الابتزاز، وهي تتمّ على مرحلتين، الاولى منها طويلة والثانية يتم فيها، إما الحصول على الرخصة أو على الرفض معللاً، ولكن المشكلة ليست بهذا الشقّ من الملفّ، بل بالمخالفات التي ترتكبها أجهزة تابعة للدولة اولا، وبعدم التحرك باتجاه المخالفين ثانيا، إذ يشدد نخلة على أن وزارة الطاقة والمياه تتحرّك بناء على شكوى من متضرّر، داعيا المواطنين للتقدّم بهذا النوع من الشكاوى لتوقيف المخالف.
عندما تجد الوزارة مخالفا، يُحال ملفّه الى وزارة الداخليّة فيتمّ إقفال البئر وطلب ردمه على حساب المخالف، اما بحال طلب تسوية اوضاعه، يُصار الى دراسة الملفّ في وزارة الطاقة. اذا يجب أن يشكل هذا الملف أولويّة لدى أجهزة الرقابة، لأنّ الثروة المائّية لا يضاهيها ثروة، وما تخسره الخزينة العامة من سرقات الآبار، وما تخسره الاجيال المقبلة من مياه جوفيّة، يتطلب عشرات السنين لتعويضه.