بعد أن أصبح الانسحاب الاميركي من سوريا واقعاً ملموساً، اتجهت الانظار بشكل فعلي الى تركيا التي حملت شعار الدفاع عن نفسها من حزب العمال الكردستاني واتخذته ذريعة للدخول الى الاراضي السوريّة عسكرياً وعدم الخروج منها.
التصريح الاخير للرئيس التركي رجب طيب اردوغان حول المنطقة الآمنة في شمال سوريا والتي ستشهد انسحاباً اميركياً عسكرياً، اثار ردود فعل غاضبة من سوريا ومن الاكراد المتواجدين فيها، وطرح اكثر من علامة استفهام حول ما سيحصل بعد هذه الخطوة. وقد بات الامر واضحاً أنّ قرار تقسيم سوريا على الورق بدأ حقيقة ولم يعد مجرد كلام، ولو انه لم يتمّ الاعلان عنه بشكل واضح. فالتواجد العسكري التركي في شمال سوريا لن يكون موقتاً وسيحمل صفة "الضروري" من أجل "حماية تركيا" من أي "اعتداء" ينطلق من الحدود السوريّة كردياً كان ام غير كردي. ولا يمكن اعتبار هذا التواجد الا سيطرة عمليّة وعسكريّة لتركيا على اراض سوريّة، وهو بالتالي يرسّخ مفهوم التقسيم الجغرافي وتقسيم النفوذ لدول كبرى ومجاورة قويّة. ويأتي تقويض السيطرة السوريّة على كامل الاراضي، بمثابة صورة مسبقة عما ستتجه اليه الامور قبل اعلان التسوية الشاملة في سوريا ومقدمة للاعلان عن سيطرة أخرى للاعبين آخرين على بعض المناطق الحدوديّة ايضاً، خصوصاً وان اسرائيل ترغب في "ضمانات" لأمنها الحدودي، وبما انه لا يمكنها التواجد على اراض عربية –حتى الساعة- فسيتمّ الاعتماد على روسيا لتعبئة هذا الفراغ.
هذه المنطقة الآمنة التي تم الاعلان عنها، ستشهد تواجداً تركياً دائماً، يعزّزه عدم قبول الاكراد بها، وهذا من شأنه دفع هؤلاء الى المواجهة، وهي الذريعة الأنسب والاكثر ملاءمة للاتراك لتبرير تواجدهم العسكري، وربما تعزيزه، في هذه البقعة الجغرافيّة. ولا شك أنّ الاكراد سيعمدون الى "المقاومة"، فهم لا يزالون تحت وقع صدمة تخلّي الاميركيين عنهم، رغم كل ما قاموا به من مواجهات عسكرية ضد تنظيم "داعش" الارهابي وبعد ان تأمّلوا بالوعود التي اعطيت لهم باقامة منطقة حكم ذاتي على الحدود، توصلهم الى الغاية التي طاما نادوا بها وعملوا من اجلها. ولكن مع اضمحلال أي امل لهم بمثل هذا الهدف، سيلجأون الى ابقاء الصراع مع تركيا على حاله من خلال عمليّات محددة وفي اوقات مختلفة، تماماً كما كان يحصل منذ عقود من الزمن، انما هذه المرة على اراضٍ سوريّة.
ولن تكون روسيا معارضة للتواجد التركي، فهو يريحها من مسؤولية "ضبط الحدود" ومن مطالب الاكراد بأن يحكموا انفسهم مع كل ما يعنيه ذلك من ممانعة تركية ومساعي "توسط" ستقوم بها موسكو للتوفيق بين مطالب الجانبين. اضافة الى ذلك، فإن التواجد العسكري التركي لن يشكل اي عائق امام الروس في سوريا، لانه سيكون ضمن اطار تفاهم عملي وميداني محدد، ويضمن عدم الوصول اي احتكاك او اشتباك بين البلدين او مطامع تركيّة اضافية من شأنها توسيع "المنطقة الآمنة".
ها هي بداية الصورة التي سترسو عليها منطقة الشرق الاوسط في حلّتها الجديدة، والتي تحظى بطبيعة الحال، برضى الولايات المتحدة وادارة الرئيس الاميركي الحالي دونالد ترامب الذي يهتمّ بحصد انقاط اكثر من المشاركة في الغرق في المشاكل وايجاد حلول لها. ستعارض السلطات السوريّة والاكراد السوريون هذه الترتيبات، ولكن لن يكون لاعتراضهم أي آذان صاغية لانّ ما تم الاتفاق عليه لن ينتهي بصرخة من هنا او بانزعاج من هناك. انها السخرية بذاتها، حيث يتمسك الجميع علناً بوحدة الاراضي السوريّة، بينما يشهد الواقع الميداني بداية التقسيم الرسمي غير المعلن.