لم يكن المواطن العربي ينتظر شيئاً ذي قيمة إيجابية، تنعكس على قضاياه الوطنية والقومية وظروفه الاقتصادية التنموية والحياتية، من القمة العربية الاقتصادية التي انعقدت في بيروت في الفترة الواقعة بين 19 و 20 الشهر الحالي، لا سيما أنّ معظم الحكام العرب وحكوماتهم يخضعون للوصاية والإملاءات الأميركية، لا يجرؤون على اتخاذ أيّ قرار أو القيام بأيّ خطوة لا يرضى عنها سيدهم في البيت الأبيض في واشنطن التي ترسم سياساتها في العالم العربي على إيقاع مصلحة كيان العدو الصهيوني.. حتى بات من المسلّم به أنّ الولايات المتحدة الأميركية ليست لديها سياسة في المنطقة مستقلة عن السياسات «الإسرائيلية».. والحكام العرب بغالبيتهم ينفذون التعليمات الأميركية بحذافيرها وهو ما تجسّد بتحويل جامعة الدول العربية إلى مجلس حربي مهمّته التآمر على سورية، بدءاً من قرارهم المشؤوم سنة 2011 بإقصاء سورية عن الجامعة وفرض الحصار السياسي والدبلوماسي والاقتصادي عليها، وصولاً إلى قرارات تغطية ودعم الحرب الإرهابية الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة…
اليوم، بعد فشل أهداف الحرب الإرهابية في إسقاط الدولة الوطنية السورية وإقامة دولة عميلة بدلاً منها تعمل في خدمة الاستراتيجية الأميركية، كما هي أنظمة مجلس التعاون الخليجي، ينتظر الحكام العرب الإذن الأميركي لإنهاء الحصار والمقاطعة التي فرضوها على سورية بالأمر الأميركي، ولهذا لم يشذّ هؤلاء الحكام عن تنفيذ الإملاءات والأوامر الأميركية التي حملها وزير الخارجية مايك بومبيو خلال زيارته للعديد من الدول العربية عشية عقد القمة في بيروت، فكان امتناع شبه كامل من قبل الرؤساء والملوك والأمراء العرب عن حضور القمة والاكتفاء بإرسال ممثلين عنهم، والتزام صارم بعدم السماح بدعوة سورية لحضور القمة، وربط أيّ قرار بفك الحصار عنها والسماح بعودة النازحين السوريين إلى بلدهم بإنجاز الحلّ السياسي الذي تريده واشنطن أن يضمن تسليماً سورياً بحزمة الطلبات والاشتراطات الأميركية التي تنتهك سيادة واستقلال سورية وحرية قرارها الوطني، ومن هذه الاشتراطات انسحاب المستشارين الإيرانيين ومقاتلي حزب الله والموافقة على إعطاء أميركا حصة من الاستثمار في النفط والغاز السوري، وقبول تشكيل اللجنة الثلاثية لإعداد دستور جديد لسورية يكون الصوت المقرّر فيها للجماعات التابعة لواشنطن حتى تجري هندسة دستور يعبث بوحدة الدولة الوطنية السورية.. لكن كما بات معلوماً فإنّ هذه الأهداف الأميركية المُراد تحقيقها بواسطة ربط فك الحصار العربي عن سورية، ليست في الحقيقة سوى أحلام وأوهام لأنها أسقطت بفعل صلابة الموقف الوطني والعروبي والمقاوم للرئيس بشار الأسد وانتصارات الجيش السوري وحلفائه.. وهو ما أجبر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أخيراً على اتخاذ قرار الانسحاب الهروب من شمال وشرق سورية خوفاً من الغرق في حرب استنزاف طويلة الأمد ورؤية جنوده في المستشفيات وفي التوابيت، وهو ما بدأ فعلاً بسقوط العديد من الجنود الأميركيين قتلى وجرحى في عمليتي تفجير في منبج وفي الشدادي قرب الحسكة ما يؤشر إلى أنّ التأخير بإنجاز الانسحاب سوف يكلف القوات الأميركية المزيد من الخسائر ويجعل خروجها مذلاً وهو ما يسعى ترامب إلى تجنّبه..
لهذا فإنّ وهج انتصارات سورية كان مخيّماً على جلسات القمة ويكشف خذلان الحكومات العربية التي تآمرت مع الأميركي لإسقاطها في شباك مشروعه الشرق أوسطي.. ومع ذلك لم تقدم هذه الحكومات على التراجع عن موقفها المخزي وتستجيب لطلب لبنان بدعوة سورية لحضور القمة وبالتالي التراجع عن قرار فرض بالأمر الأميركي.. ومع ذلك فقد نجح لبنان في أن يسقط أحد الاشتراطات الأميركية وإحداث اختراق في جدار الممنوعات التي حدّدها بومبيو، بأن ثبت موقفه من ملف عودة النازحين السوريين إلى وطنهم بعيداً عن ربط هذه العودة بإنجاز الحلّ السياسي، وبالتالي تضمين البيان الختامي للقمة تشجيعاً لعودة النازحين عبر مساعدتهم في بلدهم بدل الاكتفاء بالمساعدات الدولية في البلدان التي نزحوا إليها.. ويعود الفضل في هذا الخرق اللبناني في جدار الاشتراطات الأميركية إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل اللذين أصرّا على وجهة نظر لبنان لحلّ أزمة النازحين وعدم ربطها بأيّ شروط..
على أنّ هذا النجاح اللبناني لم يشكل فقط كسراً للإملاءات الأميركية بل وفشلاً للمندوب السعودي الذي اعترض على مجرد التطرق لموضوع النازحين في القمة، فيما أخفقت محاولات الأردن ومصر ربط العودة بالموقف الدولي أو تأجيل الأمر إلى القمة العربية التي ستعقد في آذار المقبل في تونس..
هكذا.. فإذا كان لبنان لم يتمكّن من إنهاء المقاطعة العربية المفروضة على سورية، لكنه نجح في إسقاط أحد أهمّ الاشتراطات والأوراق التي تسعى واشنطن للاحتفاظ بها، وهي رهن عودة النازحين السوريين بالحلّ السياسي لابتزاز الدولة السورية.. بعد أن فشلت في تحقيق أهدافها في إسقاط سورية دولة وجيشاً وتفتيت وحدة شعبها.