في الظاهر، هي موجة "تفاؤل" جديدة عادت لتتصدّر المشهد الحكوميّ خلال الساعات الماضية، اختصرها رئيس مجلس النواب نبيه بري بقوله إنّ رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري "بصدد تكثيف المساعي، ويأمل أن ترى الحكومة العتيدة النور خلال أسبوع، لا بل أقلّ".
وإذا كان من غير المنطقيّ الرهان على مثل هذا الكلام للقول إنّ شيئاً ما طرأ على خط العقد الحكوميّة، خصوصاً أنّ اللبنانيين اختبروا الكثير من موجات "التفاؤل المضخّم" على امتداد الأشهر الثمانية الماضية، فإنّ "المفارقة" هذه المرّة تمثّلت في إنهاء الحريري "اعتكافه" غير المُعلَن عملياً.
ألغى الرجل مشاركته في مؤتمر دافوس الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولة مفاوضات جديدة من عين التينة، ليوحي بـ"جدّية" افتقدها حراكه في الآونة الأخيرة، لدرجة حديث البعض عن تفويض صلاحياته لرئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل.
فما سرّ "الاندفاعة المستجدّة"؟ وهل يعني ذلك أنّ الحكومة ستبصر النور في القريب العاجل؟!
الحريري "مستعجل"
يوحي حراك رئيس الحكومة المكلف بأنّ الرجل بات "مستعجلاً" لتأليف الحكومة اليوم قبل الغد، وأنه "منفتح" على أيّ حلول من شأنها تسهيل ذلك، وإن أصرّ على رفض تقديم أيّ "تنازل" إضافيّ من كيسه، وهو ما برز مثلاً من خلال ما أثير عن قبوله صيغة 32 وزيراً بسبعة وزراء سنّة، قبل أن تصطدم بـ"فيتو" الثنائيّ الشيعيّ.
لا شكّ أنّ عوامل متعدّدة تدفع الحريري إلى "الاستعجال" اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، تتعدّى ما يُحكى عن كلمة سرّ خارجية، إقليمية تحديداً، بضرورة الإسراع في تأليف الحكومة، أولاً لأنّه لم يعد يستطيع القول إنّه في "مهلة سماح"، خصوصاً أنّه بدأ يقترب من منافسة "الرقم القياسي" الذي سبق أن سجّله رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام، بعدما استغرق تأليف حكومته زهاء عشرة أشهر، وهو ما يصبّ في صالح الحريري الذي كان يتغنى بكونه من "الأسرع" انسجاماً مع اعتباره "رئيس الحكومة القويّ".
وإذا كان من غير المنطقيّ اعتبار ما سُمّيت بـ"ثورة" النائب جميل السيد، ودعوته إلى "تصويت نيابي" لسحب التكليف من الحريري، سبباً كافياً لشعور رئيس الحكومة المكلف بـ"الخطر"، خصوصاً أنّه يدرك أنّه لا يزال يحظى بـ"دعم" من يمكن وصفهم بـ"الحلفاء الخصوم"، وفي مقدّمهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي قدّم له "جرعة معنويات" بردّه على السيّد وتأكيده أنه "يعرف واجباته"، فإنّ ما لا شكّ فيه في المقابل، أنّ "الضغوط" التي يتعرّض لها الحريري، تارة عبر "الترغيب" وطوراً عبر "الترهيب"، والتي ازدادت في الآونة الأخيرة، تندرج ضمن أسباب "الاستعجال"، بشكلٍ أو بآخر.
ولعلّ ما يريد الحريري وضع "حدٍ" له هو ما بدأ يُحكى بكثافة في الصالونات السياسية، عن أنّه تنازل بملء إرادته عن صلاحياته كرئيس مكلّف بالتأليف، ليصبح رئيس الجمهورية هو عملياً من يؤلّف الحكومة، إما بصورة مباشرة، أو من خلال وزير الخارجية بتكليفٍ مباشر منه، في عمليةٍ يقال إنها تحظى بمباركة الحريري الذي لم يترك للرجلين خياراً آخر، حين قرّر النأي بنفسه عن واجباته الدستوريّة والجلوس جانباً بانتظار "الفرج"، احتجاجاً على ما يعتبرها مصادرة لصلاحياته من خلال خلق أعراف جديدة وغير مسبوقة في تاريخ تأليف الحكومات.
حسابات داخلية...
ولأنّ كلّ ما سبق قد لا يبدو جديداً في الصورة الإجماليّة، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ حساباتٍ أخرى، جعلت الحريري يبدو "مستعجلاً" اليوم، أكثر من أيّ وقتٍ مضى لتأليف حكومته، وهي حساباتٌ يقول العارفون إنّها داخليّة بالدرجة الأولى، ومرتبطة بترتيب البيت "المستقبليّ"، تزامناً مع "النفضة" التي تجلّت من خلال التعيينات الجديدة التي تمّ الإعلان عنها أخيراً، والتي اعتُبِرت جزءاً من عملية "المحاسبة" التي نتجت عن الانتخابات النيابيّة الأخيرة.
ويرى البعض أنّ ما حصل على خطّ القمّة العربيّة التنمويّة التي عقدت في بيروت نهاية الأسبوع الماضي زادت من قناعة الحريري على هذا الصعيد، خصوصاً بعد التصريحات التي صدرت عن وزير الدولة لشؤون النازحين معين المرعبي المحسوب عليه، والتي اضطرّته إلى إبلاغ وزير الخارجية أنّها لا تلزمه بل لا تعبّر عن موقفه. وكان لافتاً في هذا السياق "اصطفاف" وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال نهاد المشنوق إلى جانب المرعبي، ما أوحى بإمكان عودة "صراع الأجنحة" داخل التيار "الأزرق"، وصولاً حتى إلى استعادة "سيناريو" الوزير السابق أشرف ريفي في صفوفه، الأمر الذي يتطلب من الحريري إعادة بسط سلطته ونفوذه، منعاً لأيّ "تمرّد" يمكن أن يحدث، من بوابة حكومةٍ مستقيلةٍ ما زال لوزرائها الكلمة الفصل.
لكلّ هذه الأسباب، يمكن القول إنّ الحريري أنهى "اعتكافه" الحكوميّ، ولكن هل يكفي ذلك للقول إنّ الحكومة ستبصر النور خلال أسبوع أو أقلّ، كما "بشّر" بري؟ قد لا تكون الإجابة على قدر الآمال، إذا لم يقترن حراك الحريري بتسهيلات عمليّة لا يقدّمها وحده، هو الذي لا يبدو جاهزاً بعد لتقديم "تنازلات" أبعد من "الشكل"، بل يتبادلها الأطراف الآخرون، الذين يصرّ الحريري على أنّ الكرة الحقيقية في ملعبهم، وتحديداً "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، في ظلّ اعتقاده بأنّ "أزمة الثقة" بين الجانبيْن تبقى الأساس، ولو جاهرا بخلاف ذلك ليلاً نهاراً.
"لا غالب ولا مغلوب"
أن يكسر الحريري "اعتكافه" الحكوميّ مؤشّر إيجابيّ بلا شكّ، ولكن غير كافٍ لولادة الحكومة. وأن يبدو الحريري "مستعجلاً" لولادة الحكومة اليوم قبل الغد، وأمس قبل اليوم، مؤشّرٌ إيجابيّ أيضاً، خصوصاً إذا ما اقترن بـ"استعجال" رئيس الجمهورية، الذي يكاد نصف "العهد" يضيع من دون أن تُشكَّل "حكومته الأولى"، ولكن غير كافٍ لولادة الحكومة.
المطلوب عملياً هو بالتأكيد أكثر من "الظاهر". المطلوب أن يترجم عون والحريري "استعجالهما" بصورة عمليّة، أولاً من خلال تقديم التسهيلات العمليّة، وثانياً من خلال الضغط على الآخرين لملاقاتهما في منتصف الطريق، وعندها فقط يمكن للحكومة أن تُشكَّل، وفق قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، وبإرضاء الجميع.
يبقى أنّ الإفراط في "التفاؤل" في غير مكانه اليوم، من دون وقائع ملموسة، تماماً كما أنّ الرهان على الحكومة المنتظرة في غير مكانه، ليس فقط لأنّ المكتوب يُقرَأ من عنوانه، بل لأنّ شكل "حكومة التناقضات" لا ينسجم مع العناوين "العريضة" المطروحة لها، من الإصلاح الاقتصادي إلى مكافحة الفساد...