شغلت الضربات الاسرائيلية الأخيرة التي استهدفت سوريا حديث السياسيين والخبراء العسكريين و"الاستراتيجيين"، الذين انصرفوا لقراءة الاندفاعة الإسرائيلية، من دون أن يصلوا الى مقاربة موحّدة لأسبابها. لكن ثمة تساؤل حول مسار الخطوة الإسرائيلية، وأبعادها، وعدم الرد السوري الثقيل عليها، وحقيقة الموقف الروسي منها.
هناك من يعتقد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو أمام أصعب الإختبارات الميدانية في سوريا، بعد نجاح موسكو في كل المعموديّات السابقة ضد الارهاب التكفيري. لم يستطع بوتين إقناع تل أبيب بوقف هجماتها، بسبب تذرع الاسرائيليين بالسلاح والنفوذ الايرانيين، ولا هو قادر على إغضاب دمشق وطهران معاً. لقد أصيب بوتين بالعمق، بطلب من "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة الأميركية. هو كان حذّر الاسرائيليين، وطمأنهم، على مسافة أعوام عدة، لكنهم لم يرتدعوا، ولم يحسبوا لموسكو أي حساب.
فهل يدفع بوتين ثمن الاستخفاف بالصراع بين تل أبيب وطهران؟ أم نتيجة انحيازه الى جانب البيت الأبيض ضد "الإدارة العميقة".
تظهر كل المعطيات ان الاسرائيليين يتصرفون عسكريا، من دون أخذ الحسابات الحدودية بعين الاعتبار، ولا دراسة إمكانية ان تشتعل الجبهات دفعة واحدة. قرروا واستهدفوا وعادوا واسقطوا صاروخا وجهته دمشق نحو الاسرائيليين.
كان رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو يزور تشاد عندما ابلغوه بالضربات العسكرية، فأوحى بإحاطته بالموضوع، من خلال قوله: السياسة لدينا لا تتغير سواء كنا في البلاد ام في تشاد. بينما كانت الصحافة العبرية تتحدث عن ان توافر الاهداف حدّد الضربات، من دون الحاجة لقرار سياسي.
اللافت ان موسكو تفرّجت، ولم تردّ، بينما كان الردّ السوري متواضعاً، فتولّدت الأسئلة عما تريده تل أبيب: هل فقط ضرب اي نفوذ او سلاح ايراني؟ أم فرض قواعد جديدة للعبة في المنطقة؟.
تريد "الدولة العميقة" الأميركية كل ذلك معا في سوريا، عبر استخدام تل أبيب، التي تحتاج لضوء أخضر، لفرض نفسها في اللعبة الجديدة. يقرّ الاسرائيليون في صحافتهم ان الرئيس السوري بشار الأسد ثبّت نظامه، وليس بمقدور أحد أن يزعزع مكانته السوريّة. لكن أميركيي "الدولة العميقة" يسعون لفرض تعديلات: تقويض روسيا في سوريا، مع محاولة إبعادها عن تركيا عبر جذب أنقره، ودغدغة أحلامها، في ملف الأكراد السوريين، ووضع روسيا وايران معاً في مواجهة تركيا بسبب لعبة النفوذ شمال سوريا.
تمارس تل ابيب سياسة الغموض، فلا تنفي ولا تؤكد كل ما يُنسب لها من إجراءات وخطط. هذه السياسة انكسرت في بداية الشهر، حين تباهى رئيس الاركان المعتزل غادي آيزنكوت في مقابلة مع "نيويورك تايمز" بان اسرائيل هاجمت في السنوات الاخيرة الاف المرات، وبعد يوم من ذلك اخذ رئيس الوزراء الاسرائيلي المسؤولية عن هجوم ضد هدف في مطار دمشق.
ما تستنتجه الصحافة العبرية أن الوضع سيبقى في هذه المرحلة مثلما هو: "ايران ستواصل محاولة تثبيت تواجدها في سوريا، نقل الصواريخ الدقيقة أو عناصر الصواريخ وكذا الصواريخ المضادة للطائرات الى حزب الله، واسرائيل بالمقابل ستهاجم كي تحبط هذه المساعي. ولكن الى هذه المعادلة المعروفة والمتوقعة، قد يدخل متغير آخر–ردود بالنار واطلاقات صواريخ من الجيش السوري، الذي اخذت ثقته بنفسه تتعزز أكثر فأكثر".
يدرك ذلك الاسرائيليون، لكنهم يرصدون ردّ الفعل الروسي.
المستهدف ليس ايران فحسب، بل إنّ روسيا هي المستهدفة في الضربات الإسرائيلية، فكيف سترد موسكو؟. ستكمل بالطبع سياساتها في سوريا، لإنجاز تسوية بين أنقره و دمشق، رغم كل محاولات "الدولة العميقة" لإحباط المسعى الروسي، وصولا الى ضرب قدرة موسكو "الغازية". لكن الروس سيفشلون في محاولة السعي لضبط الصراع مع اسرائيل، لاعتبارات تتخطى الحدود السوريّة. وهنا يكمن الاختبار الحقيقي لبوتين في سوريا. انه الإختبار الأصعب.