أرخت الرسائل العسكرية والضغوط السياسية المتلاحقة في المنطقة بثقلها على الوضع اللبناني، ما أعاد تحريك الهواجس لدى البعض بقرب اندلاع حرب جديدة مع إسرائيل إنطلاقاً من الجنوب. لكنّ القراءة المتأنّية والمفصّلة للواقع المتشابك والمعقّد والضاغط في الشرق الأوسط تُظهر أنّ المنطقة تحت الضغط ولكنها ليست على مشارف حرب.
يوم الاحد الماضي شنّت الطائرات الحربية الاسرائيلية غارات في محيط دمشق. وبخلاف المرات السابقة فإنّ الغارات الاخيرة استهدفت تجمعات للجنود السوريين والأهم لعناصر من الحرس الثوري الايراني.
في السابق كانت الغارات الاسرائيلية تحاذر قدر الامكان سقوط عناصر ايرانيين، وكانت تعمل على اصابة مخازن الصواريخ ومن بعدها استثمار «اصداء» الغارة في اللعبة السياسية الداخلية. وكانت متفقة مع روسيا على انّ ضربها للمخازن يتقاطع مع التفاهم الذي تمّ سابقاً حول المصالح الامنية الاسرائيلية.
لكنّ الغارة الاخيرة اختلفت جذرياً ما جعل روسيا تحمل تحذيراً سورياً ـ ايرانياً الى اسرائيل بأنّ ما حصل يبدّل من قواعد اللعبة، وانّ الاعتداء الاخير فتح الباب واسعاً امام المواجهة العسكرية المباشرة.
التحذير السوري ـ الايراني من خلال موسكو دفع اسرائيل الى وضع قواتها في الشمال في الاستنفار، لتُبلغ روسيا رسمياً انّ ضربتها الاخيرة لم تكن في اطار تغيير قواعد الاشتباك بل رداً على الصاروخ الذي كان قد أُطلق قبل ساعات في اتّجاه مواقعها في الجولان والذي رمى الى تغيير قواعد الاشتباك.
فهو صاروخ ارض - ارض وليس صاروخ أرض ـ جو تابع لنظام الدفاع الجوي وانّ الغارة جاءت بمثابة رسالة قاسية لمنع تجدّد اطلاق صواريخ من هذا النوع.
وبعدما نجحت موسكو في اعادة الامساك بالوضع ومنع حصول تعديل في قواعد الاشتباك، عادت احتمالات الذهاب الى حرب مباشرة مخفوضة جداً.
والتهديد الذي صدر عن طهران وتلاه تهديد سوريا بضرب مطار اسرائيل على لسان مندوب سوريا في الامم المتحدة والتهديد الذي سيعلنه الامين العام لـ«حزب الله» السبت المقبل بالرد على أيّ اعتداء مستقبلي، انما يأتي في اطار لجم أيّ تمادٍ اسرائيلي وخرق قواعد الاشتباك المعمول بها.
لكن الواضح بعدما حصل انّ الحرب ليست في حسابات اطراف النزاع في الشرق الاوسط. ربما اراد رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو اختبار الساحة بعد القرار الاميركي بالانسحاب وتثبيت الخطوط الحمر بعد رحيل الجيش الاميركي، والاهم عرض عضلاته كوزير للدفع خلال فترة الحملات الانتخابية. وهذا ما يفسّر خرقه التقليد الاسرائيلي حيث يدأب على تبنّي الغارات رسمياً.
ولكن نتنياهو الذي يريد استثمار كامل الهامش المسموح به للتصعيد يحاذر خرق المحظور والانزلاق الى مواجهة مباشرة لا يسعى إليها، خصوصاً بعدما اختبر قدرات الفريق الآخر. وبخلاف الصورة الظاهرة فإنّ نتنياهو محشور داخلياً وهنا مكمن الخطر.
ففي حال تقديم المستشار القضائي الاسرائيلي لائحة اتهام ضد نتنياهو بشبهة تلقي رشوة، فإنّ الاستطلاعات تشير الى خسارة «الليكود» الفورية لأربعة مقاعد لتصبح 25 من 29 مقعداً مرجّح الفوز بها، فيما «الليكود» يحظى بثلاثين مقعداً الآن.
ولأنّ اندلاع الحرب يشعل فوضى كبيرة في المنطقة لا تستطيع اسرائيل التنبُّؤ بحدودها، فإنّ نتنياهو يطلب اقصى حدود الإستعراض ولكن من دون ملامسة حدود الحرب. فالادارة الاميركية غارقة في فوضى الاعترافات المتتالية للمحامي السابق لترامب مايكل كوهين.
كما انّ وزارة الدفاع الاميركية تعبّر عن مخاوفها العميقة من السياسة المتهوّرة التي يتّبعها مستشار الامن القومي جون بولتن في الشرق الاوسط والتي تدفع في اتجاه اشعال مواجهة عسكرية مع طهران لا يحبّذها الجيش الاميركي، في وقت تسعى واشنطن لانجاز انسحاب آمن لقواتها من سوريا.
والوضع الاميركي يضع اسرائيل في موقف عسكري دفاعي لا العكس. كما انّ الممثل الاميركي السابق لدى التحالف الدولي لمحاربة «داعش» بريت مكغورك قال إنّ بلاده ليست لديها خطة لمرحلة ما بعد انسحابها من سوريا، وهو ما يزيد من المخاطر على الجنود المنسحبين.
في المقابل فإنّ واشنطن التي تعمل على تنظيم تحالف دولي ضد ايران في المؤتمر الذي دعت اليه في وارسو، تدرك انّ طهران وضعت خطة تقشف تمكنها من الصمود امام العقوبات الاقتصادية حتى سنة 2021، اي لما بعد الانتخابات الرئاسية الاميركية.
ولذلك قلصت ايران من عديدها في سوريا الى درجة كبيرة البعض يقدّرها بالنصف. ولكنها في المقابل تقوم بإبراز مخالبها وقدراتها المخفية، وهو ما كان يحذّر منه دائماً وزير الدفاع الاميركي السابق جيمس ماتيس الذي قدم الى الشرق الاوسط ويعرف جيداً ألغازه وخباياه وقدرة ايران على ضرب المصالح الاميركية في المنطقة.
وعلى سبيل المثال وفي عزّ التصعيد في وجه ايران توقفت الديبلوماسية الاميركية طويلاً امام المواجهة المسلحة التي حصلت في القَطيف في السعودية بين مجموعة مسلحة وقوات أمن سعودية في السابع من الشهر الحالي. فعدا معاني الاشتباك فإنّ القطيف هي المنطقة السعودية الاغنى بالحقول النفطية حيث البنية التحتية لتصدير النفط، كما انها قريبة من البحرين التي ترتبط بالسعودية بجسر، وحيث مقرّ الاسطول الاميركي الخامس. كما انّ غالبية المواطنين في «المنطقة الشرقية» والبحرين هم من الشيعة وحيث إنّ ايران لا تبعد كثيراً عنهم.
من هنا فإنّ واشنطن التي تريد زيادة الضغط على ايران وإثارة الحرائق المتنقلة، تتمسّك بمنع حصول ايّ مواجهة مباشرة اسرائيلية ـ ايرانية.
وخلال زيارته الوداعية لبيروت عبر قائد المنطقة الوسطى الاميركية جوزف فوتيل عن ذلك بوضوح حين شدّد خلال لقائه مع رئيس الجمهورية على اهمية استمرار الاستقرار في جنوب لبنان وتثبيته. وفي حين لم يأتِ فوتيل أبداً على ذكر «حزب الله» قال إنّ زيارته هي وداعية وفي الوقت نفسه إستكمالاً لزيارة مساعد وزير الخارجية الاميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل.
لكن الاهم هو تركيز فوتيل على إشادته بالجيش اللبناني، مشيراً الى أنه سيوصي خلال جلسة الاستماع له امام الكونغرس باستمرار الدعم الاميركي.
والاهم انّ المعدّات والاسلحة الاميركية التي اعطيت للجيش اللبناني بقيت في عهدته ولم يتمّ تسريبها الى خارجه خلافاً للمخاوف التي اثارها عدد من الأفرقاء أنّ هذه الاسلحة ستصبح في النهاية في متناول جهات أخرى (والمقصود هنا حزب الله).
وفي شهادة الجنرال الاميركي فوتيل هو إقرار غير مباشر بأنّ الحرب مع اسرائيل غير واردة والّا لكان التعاطي العسكري مع لبنان مختلفاً.