تشهد الساحة الدُرزيّة منذ تنظيم الإنتخابات النيابيّة الأخيرة حتى تاريخه تنافسًا سياسيًا حادًا، يتخلّله تراشق إعلامي حاد في بعض الأحيان، وحتى بعض الإشكالات الأمنيّة المُتفرّقة، في ظلّ إحتقان كبير على المُستوى الشعبي، وعودة المظاهر المُسلّحة في أكثر من منطقة بين الحين والآخر، وتزايد الأحاديث عن نار تحت الرماد. فما الذي يحصل، وإلى أي مدى يُمكن أن يصل الخلاف الدُرزي الداخلي؟.
من الواضح أنّ شعار "يا غيرة الدين" الذي طبّقته طائفة المُوحّدين الدُروز في العديد من محطّاتها التاريخيّة، وكان آخرها خلال أحداث 11 أيّار 2008 عندما وضعوا خلافاتهم السياسيّة جانبًا للدفاع عن "الجبل"، غير مُطبّق حاليًا! فوتيرة السجالات السياسيّة والإعلاميّة بلغت خلال الأسابيع القليلة الماضية مُستوى غير مسبوق على المُستوى الدُرزي-الدُرزي، نتيجة تراكم العديد من المشاكل. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد مجموعة من أبرز نقاط التباين التي ساهمت بُوُصول الخلاف الدُرزي إلى ما هو عليه:
أوّلاً: التموضع السياسي المُتضارب والمُتناقض بشكل كبير، بين "الحزب التقدّمي الإشتراكي" من جهة، وكل من "الحزب الديمقراطي اللبناني" و"حزب التوحيد العربي" من جهة أخرى، وذلك في ما خصّ الحرب السُوريّة والموقف من الرئيس السُوري بشار الأسد ونظامه، إضافة إلى التناقض الكبير في الموقف الدُرزي اللبناني من الأسلوب الذي من واجب دُروز سوريا عُمومًا، ومنطقة السويداء بالتحديد، إعتماده مع النظام السُوري، لحماية أنفسهم وسط الصراعات المُلتهبة إقليميًا.
ثانيًا: التموضع السياسي المُتضارب والمُتناقض بين "الإشتراكي" من جهة، وكل من "الديمقراطي" و"التوحيد" من جهة أخرى، بالنسبة إلى العديد من الملفّات السياسيّة الداخليّة اللبنانيّة، وكذلك بالنسبة إلى "حزب الله" ومحور "المُقاومة والمُمانعة" ككل.
ثالثًا: خلاف مذهبي-سياسي مُحتدم على مشيخة عقل طائفة المُوحّدين الدُروز، حيث يدعم "الحزب الإشتراكي" الشيخ نعيم حسن المُنتخب من جانب "المجلس المذهبي الدُرزي"، بينما يدعم كلّ من "الحزب الديمقراطي" و"حزب التوحيد" الشيخ نصر الدين الغريب المُعيّن، وذلك منذ أيلول 2006، وتحديدًا إثر إقرار مجلس النوّاب اللبناني آنذاك لتعديلات قانون الأوقاف الدُرزيّة الذي دعمه في حينه الوزير السابق وليد جنبلاط وعارضه النائب طلال أرسلان.
رابعًا: إعتبار كل من رئيس "الحزب الديمقراطي اللبناني" النائب طلال أرسلان، ورئيس "حزب التوحيد العربي" وئام وهّاب، أنّه يُمثّل مرجعيّة دُرزيّة سياسيّة وازنة مُرادفة لمرجعيّة الوزير السابق وليد جنبلاط، في الوقت الذي يعتبر "الحزب الإشتراكي" أنّ تمثيل كل من "الحزب الديمقراطي" و"حزب التوحيد" محدود ضُمن الطائفة الدُرزيّة. إشارة إلى أنّه بالمُقارنة ما بين عدد الأصوات التفضيليّة (للفائزين وللخاسرين) التي حصل عليها "الحزب التقدمي الإشتراكي" خلال الإنتخابات النيابيّة، مع تلك التي حصل عليها كلّ من "الحزب الديمقراطي اللبناني" و"حزب التوحيد العربي"، نجد أنّ الفارق لا يزال كبيرًا على صعيد الإمتداد الشعبي لصالح "الإشتراكي" نسبة إلى الحزبين الدُرزيّين المُنافسين له. وفي هذا السياق، نال "الحزب التقدمي الإشتراكي"58481 صوتًا، إضافة إلى 29787 صوتًا لحلفائه على نفس اللوائح، في مُقابل نيل "الحزب الديمقراطي اللبناني" 11000 صوت إضافة إلى 2714 صوتًا لحلفائه على لائحته، ونيل "حزب التوحيد العربي" وحلفائه 7664 صوتًا. وبالتالي، نال "الإشتراكي" مع حلفائه ما مجموعه 88268 صوتًا في مقابل ما مجموعه 21378 صوتًا لكل من "الديمقراطي" و"التوحيد" وحلفائهما.
خامسًا: إشكالات أمنيّة عالقة بين الطرفين، ومنها مثلاً مُطالبة "الحزب الإشتراكي" بتسليم أمين السُوقي إلى القضاء للتحقيق معه في جريمة قتل علاء أبو فرج، علمًا أنّ هذا الأخير محسوب على "الحزب الإشتراكي" بينما السُوقي كان من المُقرّبين جدًا من النائب أرسلان، وهو فار إلى سوريا-بحسب ما يُردّد الإشتراكيّون.
سادسًا: مُوافقة "الحزب الإشتراكي" على مضض على تعيين رجل الأعمال صالح الغريب، الذي هو إبن شقيق الشيخ نصر الدين الغريب، وزيرًا دُرزيًا ثالثًا محسوبًا على كل من "التيّار الوطني الحُر" و"الحزب الديمقراطي اللبناني"، في الحُكومة المُقبلة، شكّل آخر التنازلات السياسيّة التي يُمكن للوزير السابق جنبلاط القُبول بها، بينما رأى فيها خُصومه على الساحة الدُرزيّة دليلاً على الضُعف، وصاروا يُطالبون بشكل علني وواضح بتطبيق ثُنائيّة سياسيّة على مُختلف الصعد داخل الطائفة الدُرزيّة، الأمر الذي ضاعف من صراع النُفوذ بين كل من جنبلاط وأرسلان ووهّاب.
سابعًا: رفض الحزب الإشتراكي ما يعتبره في أوساطه الضيّقة "أدوار حصان طروادة"، والتي يقوم بها كل من رئيس "حزب التوحيد" من خلال إدخال "حزب الله" أمنيًا إلى "الجبل"، ورئيس "الحزب الديمقراطي" من خلال تثبيت الحُضور السياسي للتيّار "الوطني الحُرّ" في عمق دائرة الشوف وعاليه.
في الختام، وعلى الرغم من أجواء الإحتقان المُتفاقمة شعبيًا بين كل من "الإشتراكي" و"الديمقراطي" و"التوحيد"، وعلى الرغم من عودة بعض المظاهر المُسلّحة المُتفرّقة بين الحين والآخر إلى بعض قرى وبلدات "الجبل"، وعلى الرغم من إحتدام النار تحت الرماد في أكثر من قضيّة عالقة بين الأحزاب الدُرزيّة الثلاث المذكورة أعلاه، فإنّ الصراع السياسي-الإعلامي سيبقى مضبوطًا في المدى المنظور تحت سقف حال الإستقرار الهشّ الحالي، حيث ما من مصلحة لأيّ طرف بالذهاب أكثر من ذلك في الخلافات الدُرزيّة الداخليّة. لكنّ الأكيد أنّ صراع النُفوذ بين الأطراف الثلاثة سيبقى مفتوحًا على مصراعيه خلال الأشهر والسنوات المُقبلة، وُصولاً إلى موعد الإنتخابات النيابيّة المُفترضة سنة 2022، والتي يتوقّع الكثيرون أن تُشكّل معركة كسر عضم هذه المرّة، حيث لن يكون هناك لا مُهادنة ولا مقاعد شاغرة ولا لوائح ضعيفة، بل معركة إلغاء مُتبادل!.