لم يعد خافياً على أحد في هذا العالم أنّ الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن استخدمت كلّ الأساليب الملتوية وغير المباشرة في سياق سياسة الحرب الناعمة، للإطاحة بالحكم التحرّري في فنزويلا، الذي أرسى أسسه القائد البوليفاري الراحل هوغو شافيز، وفشلت، قرّرت اليوم إشهار كلّ أسلحتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والحربية الصلبة الاستعمارية وتنظيم عملية انقلابية مدعومة من الدول الدائرة في فلك هيمنتها لإسقاط حكم الرئيس نيكولاس مادورو خليفة شافيز، وفي هذا السياق أعلنت رسمياً وعلى لسان الرئيس دونالد ترامب الاعتراف برئيس البرلمان الفنزويلي خوان غوايدو رئيساً انتقالياً بعد أن شجّعته على القيام بهذه الخطوة الانقلابية غير الشرعية وتنصيب نفسه رئيساً بدلاً من الرئيس مادورو المنتخب شعبياً في انتخابات ديمقراطية أجريت أخيراً، وفشلت آلة المال والإعلام المدعومة من اليمين ورجال الأعمال الموالين للولايات المتحدة في دفع الفنزويليّين لعدم انتخابه وتأييد ممثل اليمين رئيس البرلمان غوايدو.. وبدا واضحاً أنه في إطار خطة واشنطن للإطاحة بالرئيس مادورو، سارعت بعض الدول التابعة لواشنطن في أميركا اللاتينية إلى أن تحذو حذو واشنطن في الاعتراف بغوايدو، فيما أعلن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن البدء بالتحضير لعقد اجتماع إقليمي لدعم الانقلاب ومطالبة مادورو بالرحيل، زاعماً أنّ «نظام مادورو مفلس وغير كفوء في الناحية الاقتصادية لذا تصريحاته غير شرعية».. وهو دليل على مدى السفور الاستعماري الأميركي في التدخل في شؤون دولة ذات سيادة وإعطاء واشنطن الحق لنفسها ان تقرّر، نيابة عن الشعب الفنزويلي، ما إذا كان رئيس فنزويلا كفوءاً لحكم بلاده من الناحية الاقتصادية أم لا… والأكيد أنّ بومبيو يقصد بذلك أنّ مادورو ليس أهلاً لخدمة المصالح الاقتصادية لواشنطن التي تريد رئيساً مطواعاً يمكنها من استعادة هيمنتها على ثروات فنزويلا، وفي مقدّمها النفط الذي كانت الشركات الأميركية تنهب معظم عائداته، بالتواطؤ مع حكم اليمين ورجال الأعمال، وتحرم الشعب الفنزويلي من الاستفادة منها في تحقيق تنمية بلاده وانتشاله من الفاقة والعوز… إلى أن جاء القائد الثوري شافيز وقاد مسيرة تحرير هذه الثروة الوطنية من السيطرة الاستعمارية من سيطرة الشركات الأميركية، ووظف قسماً من عائدات النفط في تحقيق آمال الفقراء ومحدودي الدخل في حياة كريمة…
على أنّ للاتحاد الأوروبي دوراً مهمّاً وخطيراً في العمل لتسويق خطة الانقلاب الأميركية، من خلال طرح «إجراء انتخابات تحظى بالمصداقية والشمول» حسبما صرّحت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد فيديريكا موغيريني.. وهذا الطرح الخبيث هدفه تمرير خطة واشنطن لنزع الشرعية عن مادورو واعتبار أنّ انتخابه مطعون فيه…
لكن هل تنجح هذا الخطة الأميركية للإطاحة بحكم الرئيس مادورو، على غرار ما حصل في البرازيل؟
الواضح أنّ الأمر ليس بهذه السهولة، التي حصل فيها في البرازيل التي شهدت انقلاباً أميركياً أعاد هذا البلد الكبير في أميركا اللاتينية إلى الحظيرة الأميركية، فالمعطيات على المستوى الداخلي أو الخارجي لا تؤشر الى أن الخطة الأميركية من الممكن أن تتحقق في فنزويلا..
فما هي هذه المعطيات؟
أولاً: على صعيد الوضع الداخلي، ليس هناك أخطاء أو ثغرات في حكم مادورو تمكّن اليمين من الاستناد إليها للإطاحة به كما حصل في البرازيل مع الرئيسة المنتخبة ديلما روسيف، فقد فشل اليمين الفنزويلي في إسقاط الشرعية الدستورية والشعبية عنه، وظهر ذلك بوضوح من خلال استجابة الغالبية الشعبية لنداء مادورو بالنزول الى الشارع والتعبير عن دعمهم له ضدّ الانقلاب الأميركي، وقرار مادورو بالتصدي للانقلاب الأميركي وإعلان قطع العلاقات مع الولايات المتحدة والطلب من الدبلوماسيين الأميركيين مغادرة البلاد في غضون 72 ساعة، فيما وزير الدفاع فلاديمير بادرينو أعلن أنّ الجيش الفنزويلي لن يعترف بإعلان رئيس البرلمان المعارض خوان غوايدو نفسه رئيساً للبلاد، وانّ جنود الوطن لا يقبلون برئيس مفروض في ظلّ مصالح غامضة، أو أعلن نفسه رئيساً بطريقة غير قانونية، وانّ القوات المسلحة «تدافع عن دستورنا وتضمن السيادة الوطنية».. هذا الموقف للجيش إلى جانب تأييد الغالبية من الشعب يشكل ميزان قوى داخلي لمصلحة الرئيس مادورو يحبط آمال واشنطن والقوى اليمينية الموالية لها في المراهنة على التأثير على موقف الجيش ودفعه للتخلي عن دعم حكم الرئيس مادورو والانحياز الى جانب تأييد انقلاب غوايدو…
ثانياً: رفض العديد من دول العالم التدخل الأميركي في شؤون فنزويلا الداخلية وتأكيدها على شرعية الرئيس مادورو، وهذه الدول لها وزنها وتأثيرها في مواجهة سياسة الهيمنة الاستعمارية الأميركية، وأهمّها: كوبا، بوليفيا، المكسيك، الصين، روسيا، تركيا، سورية، إيران إلخ… وهي دول أعلنت دعمها الرئيس مادورو باعتباره الرئيس الشرعي ورفضت التدخل في الشؤون الداخلية لفنزويلا. على أنّ ردّ الفعل الروسي جاء قوياً وشديد اللهجة حيث أعلن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف: «نعتبر أنّ محاولة اغتصاب السلطة في فنزويلا انتهاك للقانون الدولي، وانّ نيكولاس مادورو هو رئيس الدولة الشرعي للبلد الواقع في أميركا الجنوبية»، وقال بيسكوف انّ «الإشارات الأميركية بإمكانية التدخل العسكري في فنزويلا أمر خطير جداً»… في حين اتصل الرئيس فلاديمير بوتين بنظيره الفنزويلي مادورو وأكد دعمه له»..
هذا الموقف الروسي يعكس طبيعة العلاقات التحالفية بين موسكو وكراكاس اللتين يجمعهما عدو مشترك يفرض على البلدين عقوبات اقتصادية، وتربطهما اتفاقيات ضخمة تتضمّن توريد مقاتلات سوخوي وطوافات ودبابات، واستثمار الشركات الروسية في قطاع النفط والغاز على نحو باتت تعتبر مساهماً كبيراً في المشاريع البترولية الفنزويلية، وهو ما أثار قلق واشنطن ودفعها إلى زيادة منسوب الضغط والتآمر ضدّ الحكم الفنزويلي الذي نجح في إقامة شراكة مع روسيا مكّنته من التصدي للعقوبات الاقتصادية الأميركية والصمود في مواجهة تهديدات وتدخلات واشنطن…
انطلاقاً مما تقدّم من الواضح أننا أمام انقسام دولي كبير، وفي خضمّ معركة كبرى مسرحها هذه المرة فنزويلا، في مواجهة الهيمنة الاستعمارية بقيادة الولايات المتحدة التي تعمل لاستعادة فرض هيمنتها على دول أميركا اللاتينية التي نجحت في التحرر والانعتاق من التبعية لواشنطن وتحقيق استقلالها وانتهاج خط التنمية الاقتصادية المستقلة الذي يحرم الشركات الأميركية من نهب خيرات شعوب أميركا اللاتينية، وتشكل فنزويلا هذه الأيام رأس حربة في هذا النهج التحرري… ولا شك في أنّ نجاح فنزويلا في الصمود والانتصار لثورتها البوليفارية التحررية سوف يشكل مفصلاً هاماً في نضال وكفاح شعوب أميركا اللاتينية ضدّ الهيمنة الاستعمارية يقود إلى استنهاضها من جديد وتوجيه ضربة موجعة لخطط واشنطن لاستعادة سيطرتها على ما تسمّيه حديقتها الخلفية، تماماً كما يشكل انتصار سورية مفصلاً وتحوّلاً كبيراً في العالم العربي وعلى المستوى الإقليمي والدولي يضع حداً للهيمنة الاستعمارية الأميركية على العالم، والتأسيس لولادة عالم متعدّد الأقطاب… ولهذا رأت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية أنّ اعتراف الولايات المتحدة بغوايدو رئيساً لفنزويلا «ستكون له عواقب كبيرة»…