جميع الوقائع تؤشر إلى أنّ واشنطن ماضية في سياسة التدخل السافر في شؤون فنزويلا، وهي لا تتوانى في الإعلان عن اتخاذ الخطوات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية لدعم وتحريض رئيس البرلمان خوان غوايدو والقوى اليمينية الموالية للولايات المتحدة على الاستمرار في التمرّد على الحكومة الشرعية برئاسة الرئيس نيكولاس مادورو…
وفي هذا السياق وبعد فشل جهود الإدارة الأميركية لدفع مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار يدعم خطواتها للإطاحة بالرئيس مادورو لجأت إلى اتخاذ جملة من الخطوات العملية لتنفيذ مخططها من خارج مجلس الأمن، وعلى نحو ينتهك ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية التي تنص على احترام سيادة واستقلال الدول وعدم التدخل في شؤونها.. وأبرز هذه الخطوات الأميركية تجسّدت في الاتي:
الخطوة الأولى: التعامل مع غوايدو المدعوم أميركياً وغربياً باعتباره الرئيس الشرعي، وبالتالي تحويل العائدات المالية من عمليات بيع النفط الفنزويلي والموجودة لدى واشنطن إلى غوايدو، والطلب من الدول الموالية للولايات المتحدة تجميد الاحتياطات والأرصدة العائدة للحكومة الفنزويلية من عملات صعبة وذهب وعدم تسليمها لها…
الخطوة الثانية فرض عقوبات اقتصادية جديدة تشمل حظر التعامل مع شركة النفط الوطنية الفنزويلية، وبالتالي منع استيراد النفط من فنزويلا، وكذلك الذهب باعتباره مصدراً مهماً لفنزويلا.
الخطوة الثالثة: إقدام مسؤول الأمن القومي الأميركي جون بولتون على كشف خطة أميركية لإرسال قوات أميركية إلى كولومبيا للتدخل في فنزويلا لدعم الانقلاب هناك بعد فشل الأخير في استمالة القوات المسلحة.. وهذا الأمر انكشف عندما تمكن مصوّرون من التقاط ملاحظة على ورقة قانونية لدى بولتون كتب عليها «5000 جندي إلى كولومبيا»، وكانت شبكة فوكس نيوز قد ذكرت بأنّ البيت الأبيض يفكر في نشر قوات أميركية عند جارة فنزويلا الغربية في حال الحاجة إليها…
هذه الخطوات المصحوبة بهجوم من بولتون على كوبا ونيكاراغوا اللتين تدعمان فنزويلا طرحت التساؤلات حول الاحتمالات المتوقعة،
الاحتمال الأول: ان تلجأ واشنطن إلى التورّط العسكري لمحاولة الإطاحة بمادورو بالقوة، في ظلّ عجز غوايدو عن تحقيق ذلك لعدم وجود موازين قوى داخلية راجحة لمصلحته، لا سيما أنّ الغالبية الشعبية والجيش يدعمون مادورو، غير أنّ هذا الاحتمال يواجه مخاطر كبيرة بانزلاق الولايات المتحدة إلى حرب من الاستنزاف غير قادرة على تحمّل أكلافها، في حين أنّ واشنطن لا تحظى بتأييد مجلس الأمن، وتواجه موقفاً دولياً يدعم فنزويلا تقوده روسيا والصين اللتين تربطهما بكراكاس علاقات تحالفية واتفاقيات تعاون في شتى المجالات الاقتصادية والعسكرية، وقد أعلنت موسكو أنها ستدافع عن مصالحها في فنزويلا بكلّ الآليات المتاحة… في إشارة إلى احتمال دعم الجيش الفنزويلي في مواجهة أيّ عدوان عسكري أميركي… يبدو من الواضح أنّ هذا الخيار دونه عواقب خطرة فهو عدا عن انزلاق أميركا إلى مستنقع من الاستنزاف تخاف منه، فإنه الحرب قد تتسع في منطقة أميركا اللاتينية وتشمل كولومبيا، وتدفع دول مثل كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا إلى تقديم الدعم لحليفتهم، لأنّ سقوط فنزويلا في شباك أميركا يهدّد كلّ هذه الدول التي تنتهج خطاً متحرّراً من الهيمنة الأميركية… ولهذا يبدو احتمال التدخل العسكري الأميركي ليس بالأمر السهل وهو سيكون له تداعيات كارثية على فنزويلا ودول أميركا اللاتينية المجاورة والولايات المتحدة… وهذا الخيار دفع صحيفة «الغارديان» البريطانية إلى التحذير منه والقول بأنّ «التهديد الأمني الذي أطلقه الرئيس ترامب بالتدخل العسكري في فنزويلا يمثل مخاطرة كبيرة وسيرتدّ عليه بتداعيات كارثية». وأشارت إلى أنّ هناك تعقيدات ستواجه ترامب وقالت: «في حال بقي الجيش مع مادورو فإنّ ترامب ومستشاره للأمن القومي جون بولتون الذي قاد حملة تغيير النظام في كراكاس، سيفشلان في الوفاء بأول مكوّن أساسي في أيّ عملية انقلاب ناجحة، وهو التأكد من أنّ أصحاب البنادق يقفون معك». كما لفتت الصحيفة إلى انّ «هناك تعقيداً آخر يواجه ترامب وهو الدعم الروسي والصيني القوي للرئيس الحالي».
الاحتمال الثاني: أن تمتنع الإدارة الأميركية عن التدخل العسكري، وتعتمد لإسقاط الحكومة الشرعية، على خيار تشديد العقوبات الاقتصادية وإجراءات الحصار التي تفرضها على حكومة الرئيس مادورو بحرمانها من الحصول على مواردها الأساسية، بغية زيادة الوضع الاقتصادي صعوبة وجعل حياة الشعب الفنزويلي صعبة للغاية ودفعه إلى الانحياز إلى جانب رئيس الانقلاب غوايدو… غير أنّ هذا الخيار سلاح ذو حدّين، فهو من ناحية يزيد المصاعب أمام الشعب، لكنه في المقابل يوفر للرئيس مادورو الحجة القوية للقيام بجملة من الإجراءات الأكثر جذرية ضدّ كلّ من يتعاون مع الولايات المتحدة باعتبارها تتحمّل «مسؤولية أيّ مكروه يقع في بلاده» كما قالت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية..
في المقابل فإنّ العقوبات الأميركية لا تلقى دعماً دولياً والانقسام حولها سيد الموقف مثلما كان الأمر في مجلس الأمن، ولهذا سارعت الهند إلى إعلان عدم التزامها بالقرار الأميركي مقاطعة شركة النفط الحكومية وأنها ستواصل استيراد النفط الفنزويلي، وكذلك فعلت كلّ من روسيا والصين اللتين أعلنتا أنّ «العقوبات غير قانونية» وأنهما ستتخذان كلّ الإجراءات الضرورية لدعم إدارة الرئيس مادورو» وانّ «واشنطن تتحمّل مسؤولية العواقب الخطيرة للعقوبات وأنهما ستزيدان من التعاون مع فنزويلا في كلّ المجالات على أساس المساواة والمنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة».
انّ تجربة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ضدّ العديد الدول التي ترفض الخضوع لهيمنتها لم تؤت ثمارها وأدّت إلى نتائج عكسية بتعزيز الخيارات الاستقلالية الاقتصادية لهذه الدول وزيادة الاعتماد على الذات وصولاً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي بالعديد من السلع الأساسية، وبالتالي التكيّف مع نظام العقوبات وبناء العلاقات الاقتصادية مع الدول التي تعارض هذه السياسة الأميركية…
انطلاقاً مما تقدم يمكن القول، صحيح أنّ الهجمة الأميركية العدوانية على فنزويلا سوف تسبّب لها الكثير من المشكلات والمصاعب إلا أنه بوجود قيادة ثورية مستندة إلى الإنجازات الهامة التي حققتها لملايين الفقراء والمحدودي الدخل والفلاحين على كلّ المستويات الاجتماعية والتعليمية والصحية، ولديها الإرادة والتصميم على مواصلة الخيار التحرري فإنّ فنزويلا قادرة على الصمود واحباط المخطط الأميركي للإطاحة بهذه الثورة البوليفارية التحررية والحفاظ على منجزاتها.. ومنع عودة الهيمنة الاستعمارية على ثروات البلاد، لا سيما النفط والغاز والذهب، التي تقف وراء محاولات واشنطن المتكررة للانقلاب على الحكومة الثورية في البلاد، ان كان في أيام القائد البوليفاري الراحل هوغو شافيز، والآن في عهد الرئيس مادورو الذي يواصل مسيرته الثورية التحررية…