«هل يمكنكم تزويدنا بالدراسة الشاملة عن أوضاع السجون التي أُنجزت عام 2011؟ لأنني لم أعثر عليها لا لدى قوى الأمن ولا لدى الداخلية». هذا ما سأله أحد المسؤولين في الصليب الأحمر الدولي، وهو يسعى إلى المساهمة في تخفيف مآسي السجناء في لبنان. فالدراسة المفصّلة التي تضمّ 25 مجلداً يحدد كل منها المشاكل البنيوية والإجرائية والصحية والتأهيلية والقانونية، التي تعاني منها السجون الـ24 الخاضعة لسلطة وزير الداخلية والبلديات، اختفى أثرها. كان مكتب وزير الداخلية والبلديات قد أوعز عام 2011 بطبع ثلاث نسخ، أُرسلت إحداها إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي والثانية حُفِظت في وزارة الداخلية، أما الثالثة فاحتفظ بها الباحث لأرشيفه الشخصي.
الدراسة باتت اليوم قديمة ولا بد من تجديدها، وكذلك مقارنة نتائجها الجديدة مع النتائج السابقة لقياس التحولات والبرامج الإصلاحية وأوضاع السجناء. كما لا بد من تطوير منهجية الدراسة وتصحيح بعض الأخطاء وتحسين الصياغة وتطوير التوصيات الإصلاحية الواردة فيها، لكن اختفاء أثر الدراسة الشاملة الوحيدة عن أوضاع السجون في لبنان يدل إلى حجم الإهمال وغياب متابعة الخطط الإصلاحية كلما تبدل الوزير المعني بها. يبدو أن ذلك ينطبق على كافة الوزارات، حيث العمل الحكومي في لبنان يغلب فيه طابع شخص الوزير على متطلبات العمل المؤسساتي السليم، فيُعتقد أن الوزير أو حتى الرئيس أو المدير يمكنه، بمجردة توليه سدة المسؤولية، أن «يشيل الزير من البير»، بينما أثبتت الحكومات المتعاقبة أن الإصلاح الجدّي لا يمكن أن يحققه شخص بحد ذاته مهما بلغت كفاءته ومهما علا شأنه وكانت نيته صافية. فلا إصلاح من دون إرادة وعمل جماعي في إطار مؤسساتي يضمن الاستمرارية ويحدد الخطط والمراحل التي قد تتطلب وقتاً طويلاً، والخطط الإصلاحية لمؤسسات الدولة اللبنانية قد لا تتحقق في عهد حكومة واحدة، بل قد يستغرق تطبيقها وقتاً أطول وجهداً متواصلاً يفترض أن تتابعه المؤسسات، ولا يجوز للوزير أن يعترضها أو يؤخرها أو يؤجلها، إلا إذا ثبت فشلها بعد إجراء تقييم دقيق أو لضرورات استثنائية يحددها مجلس الوزراء. فالوزير لا يجوز أن يتفوق موقفه على قرارات إدارات المؤسسات، حتى إذا كانت تلك القرارات تتابع خطة إصلاحية وضعت خلال الحكومة السابقة ولم يتسع الوقت لتطبيقها. لا يكفي تشديد معظم الوزراء الجدد أثناء عملية التسليم والتسلم، من باب اللياقة، أنهم سيتابعون ما قام به سلفهم من دون أن يترجم ذلك على أرض الواقع. وليست متابعة ما بدأه الوزير السابق هي المطلوبة هنا أصلاً، بل المطلوب هو ضمان متابعة تنفيذ خطة إصلاحية أو إجراء تقييم شامل تصحح من خلاله الأخطاء إن وجدت، أو يُعاد إطلاق خطة جديدة مبنية على خلاصات التقييم والدروس المستقاة.
يقبع اليوم آلاف البشر في عهدة الدولة بعد أن اتخذت بحقهم قرارات وأحكام قضائية، وبالتالي فإن الدولة مسؤولة قانونياً وأخلاقياً عن سلامتهم وصحتهم وأمنهم، وعن حسن تنفيذ الإجراءات والعقوبات الصادرة بحقهم. لا شك أن الدولة متقاعسة عن ذلك، حيث أوضاع السجون اليوم لا تتناسب مع المعايير الدولية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا)، ولا يمكن لأي من المسؤولين السياسيين أو القضائيين أن ينفي ذلك إذا أراد أن يكون صادقاً. ففي السجون اللبنانية اليوم ينتشر الفساد على نحو واسع، حيث ظروف الاحتجاز رهن الرشوة التي يسددها ذوي السجين إلى بعض المسؤولين عن إدارة السجن، بل إلى بعض السجناء النافذين (الشواويش) الذين يتحكمون بجزء كبير من السجن، ويشاركون فعلياً في إدارة السجن وتنظيمه. إن التأكد من هذا الواقع ودراسته في سبيل البحث عن المعالجة المناسبة لا يستدعي تكليف إدارة السجن الحالية، أو أي جهاز مرتبط بها، التحقيق في الأمر، لأن النتائج قد تكون وفقاً للمصالح المتبادلة. المطلوب تشكيل هيئة علمية متخصصة أكاديمياً في إدارة السجون ويتمتع أعضاؤها بالخبرة والمعرفة المحلية والمصداقية والاستقلالية الكافية لوضع دراسة شاملة عما آلت إليه أوضاع السجون، ومقارنتها بنتائج الدراسة الشاملة التي وضعت عام 2011 (كانت الدراسة الشاملة الأولى من نوعها في لبنان عن أوضاع السجون)، ووضع توصيات وخطة واضحة للانتقال إلى بر الأمان من خلال احترام معايير الحد الأدنى لمعاملة السجناء التزاماً بواجبات الدولة القانونية والدولية. علماً أن الحكومات السابقة كانت قد وضعت خطة لتطوير مديرية السجون في وزارة العدل، ونقل إدارة السجون من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي إليها، لكن تلك الخطة تعثرت بسبب عدم اهتمام وزارتي الداخلية والعدل الجدي بالموضوع.
يقال إن وزيرة الداخلية ريا الحسن ووزير العدل القاضي ألبرت سرحان، اللذين سيتسلمان مسؤولياتهما قريباً، يحترمان العمل الإصلاحي المؤسساتي ويحتكمان إلى الخبرات العلمية المتخصصة في وضع وتقييم وتطبيق الخطط الإصلاحية، لا إلى التباهي بالعراضات الإعلامية والكلام الفارغ كما فعل بعض الوزراء السابقين. يمكن القول، بعد مراجعة الأوضاع الحالية، إن أداء بعض هؤلاء الوزراء السابقين لم يخلص إلى أي تحسّن جدي في أوضاع السجون في لبنان، بل زاد من معاناة آلاف البشر المحشورين خلف القضبان وعوائلهم.