ما أن ولدت الحكومة اللبنانية الجديدة بعد مخاض عسير دام تسعة أشهر حتى بدأ الحديث عن التحديات التي تواجهها وما هو مطلوب منها أن تنفذه من إصلاحات نص عليها مؤتمر «سيدر» مقابل القروض التي ستقدّم للبنان والمقدّرة بـ 11.3 مليار دولار، وبين ما يطمح إليه اللبنانيون بعد طول انتظار.. رئيس الحكومة سعد الدين الحريري قال عقب إعلان الحكومة إنّ «التمويل لا يمكن أن يتمّ من دون إصلاحات جدية»، مشيراً الئ «تلازم بين التزامات المجتمع الدولي والأخوة العرب بالتمويل، والتزام الدولة بالإصلاحات والتنفيذ الشفاف للأعمال.. الحكومة عندها جدول أعمال وورشة شغل ولا تحتمل التأخير والتردّد والتشاطر على الناس. زمن العلاج بالمسكنات انتهى ولم يعد أحد يستطيع أن يخبّئ رأسه في الرمال.. أسباب الهدر والفساد والخلل الإداري معروفة»…
لكن السؤال ما هي الإصلاحات التي يريد الرئيس الحريري تنفيذها وفق مؤتمر «سيدر»؟ وهل تنسجم مع ما يتطلع إليه اللبنانيون؟
إنّ أهمّ الإصلاحات التي يدعو إليها «سيدر» هي: فرض ضرائب جديدة، خفض العجز في الموازنة بنسبة 5 بالمئة، وتحسين التغذية الكهربائية وخفض أعبائها بما يخفض الدين العام، وتحرير قطاع الاتصالات وخصخصته، وتعزيز تدابير الشفافية والمساءلة، ومكافحة الفساد…
واضح انّ مثل هذه الإصلاحات جوهرها معالجة أزمة العجز في الميزانية والدين العام عبر مواصلة السياسات الريعية النيوليبرالية التي تقوم على مزيد من الاستدانة والخصخصة والمزيد من فرض الضرائب، وهي سياسة لم تؤدّ على مدى العقود الماضية إلا إلى جعل لبنان في صدارة الدول المثقلة بالديون، والفاقدة للتنمية والعدالة الاجتماعية التي تشكل جوهر مطالب اللبنانيين الذين يريدون استثمارات في القطاعات الإنتاجية التي وحدها تحقق النمو وتوفر فرص العمل للشباب، كما يريدون عدالة اجتماعية عبر إعادة النظر بالنظام الضريبي بحيث يقوم على اعتماد الضريبة التصاعدية المباشرة التي تحمل أصحاب الثروات والمؤسسات المالية العبء الضريبي الاكبر، وتأمين إعفاءات ضريبية للمستثمرين في القطاعات الإنتاجية التي تحقق النمو الاقتصادي الحقيقي.. كما أنّ المطلوب الحفاظ على ملكية الدولة لقطاع الاتصالات الذي يدرّ عائدات هامة على خزينة الدولة، وإصلاح قطاع الكهرباء عبر تأمين التيار 24 على 24 بأقلّ كلفة من الدول التي أبدت استعدادا لمساعدة لبنان على حلّ هذه المشكلة من دون تحميل البلاد المزيد من الديون..
ولهذا يبدو أنّ هناك هوة كبيرة بين إصلاحات «سيدر»، وبين ما يريده اللبنانيون.. انّ الإصلاحات التي يحتاج إليها لبنان تكمن في التوقف عن اعتماد سياسات النيوليبرالية الريعية، والعمل على انتهاج سياسات تقوم على النهوض بالقطاعات الاقتصادية المنتجة من صناعة وزراعة وسياحة، واستثمار الثروة النفطية بطريقة تعزز الاقتصاد المنتج، واستثمار الثروة المائية عبر إقامة السدود بمساعدة الدول الصديقة التي عرضت خدماتها، وصولاً إلى إعادة العلاقات مع سورية إلى طبيعتها وتحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدين وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع العراق وغيره من الدول العربية بما يؤمّن أسواقاً هامة للمنتجات اللبنانية وبالتالي ردم الهوة في الميزان التجاري وتحقيق التوازن بين الصادرات والواردات… هذه السياسات التي يجب ان تقترن ايضاً بإعادة إطلاق عمل أجهزة الرقابة والمحاسبة، وبالتالي وضع حدّ لعقد الصفقات بالتراضي، ومحاربة الفساد والفاسدين بشدة، وسنّ قانون ضريبي يحقق العدالة الاجتماعية ويعيد توزيع الثروة.. مثل هذه السياسات، التي تعزز التنمية الاقتصادية وتردّ الاعتبار لدولة الرعاية الاجتماعية، هي وحدها القادرة على تحقيق النمو وزيادة مداخيل الدولة وسدّ العجز في الموازنة وخفض الدين العام..
من هنا ّ جدول الأعمال الذي ينتظره اللبنانيون من الحكومة الجديدة ليس الاستمرار بنفس السياسات التي تسبّبت بإغراق لبنان بالديون والأزمات الاقتصادية والخدماتية والاجتماعية، وإنما إعادة النظر بهذه السياسات لصالح اعتماد سياسات تنموية تنهض بالقطاعات الإنتاجية وتجعل من القطاعات الخدماتية من كهرباء ومياه ونفايات مصدراً هاماً لتغذية الخزينة وليس عبئاً عليها.. لكن هذا كله لا يمكن أن يتحقق من دون أن يقترن بتحرّر لبنان من التبعية الاقتصادية والمالية للدول الغربية التي تجعل من هذه التبعية وسيلة لفرض وصايتها وشروطها المالية والسياسية التي تشلّ قدرة لبنان على الخروج من أزماته.. ولهذا هناك ترابط بين اعتماد السياسات التنموية المستقلة وبين التحرّر من التبعية للدول الغربية الاستعمارية، الذي يشكل «سيدر» أحد منتجاتها لمواصلة ربط لبنان بهذه التبعية عبر الديون وشروطها القاتلة لأيّ تنمية مستقلة..
فهل أنّ الحكومة اللبنانية الجديدة في وارد انتهاج مثل هذه السياسات الاقتصادية التنموية المستقلة؟
الجواب الأكيد لا ليست في وارد ذلك، لأنها حكومة تشكلت على قاعدة المساكنة والتعايش بين تيارين، تيار يريد مواصلة سياسات النيوليبرالية القائمة على الاستمرار في ربط لبنان بعجلة التبعية للدول الرأسمالية الاستعمارية الغربية، والالتزام بشروطها ومنها العقوبات المالية التي تفرضها الولايات المتحدة على النظام المصرفي اللبناني والتي تستهدف اللبنانيين ومقاومتهم ، وتيار يرفض هذه الوصاية التي وصفها الرئيس ميشال عون بالاستعمار المالي… وفي هذه الحال فإنّ السياسات التي ستعتمدها هذه الحكومة ستكون نتاج تسويات بين التيارين، وهذا يعني انّ لبنان سيكون في حالة صراع داخلي مستمرّ داخل الحكومة وخارجها، على وقع الوصاية الأميركية الغربية التي يخضع لها لبنان ونموذجها تطبيق العقوبات المالية في المصارف اللبنانية وشروط الاستدانة عبر مؤتمر «سيدر».. وأفضل ما يمكن توقعه أن يتمكن الفريق الوطني من أن يضع حداً لاستمرار الصفقات ومزاريب الهدر والفساد من خلال تفعيل أجهزة الرقابة على اختلافها، والنهوض بالقطاعات الاقتصادية والخدماتية ومنع خصخصة الاتصالات أو فرض ضرائب جديدة تطال الفقراء والفئات الشعبية، وهو أمر لن يتحقق أيضاً من دون ضغط مدعوم بموازين قوى داخل الحكومة وعند اللزوم من خارجها…