علّم يسوع تلاميذه أن يُصلّوا: "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ". وهو لطالما علّم عن ملكوت السماوات واستعلان مُلك ابن الإنسان في الأزمنة الأخيرة. تعليمه لم يكن غريبًا عن نبوءات العهد القديم. فها دانيال النبيّ تنبأ عن الممالك المتعاقبة، ورأى أن مملكة الرّبّ تأتي ولا يكون مملكة أخرى بعدها. "يُقِيمُ إِلهُ السَّمَاوَاتِ مَمْلَكَةً لَنْ تَنْقَرِضَ أَبَدًا... وَتَسْحَقُ وَتُفْنِي كُلَّ هذِهِ الْمَمَالِكِ، وَهِيَ تَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ". ووصف دانيال مشهد تنصيب المسيح الملك: "كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. وَالْمَمْلَكَةُ وَالسُّلْطَانُ وَعَظَمَةُ الْمَمْلَكَةِ تَحْتَ كُلِّ السَّمَاءِ تُعْطَى لِشَعْبِ قِدِّيسِي الْعَلِيِّ. مَلكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ، وَجَمِيعُ السَّلاَطِينِ إِيَّاهُ يَعْبُدُونَ وَيُطِيعُونَ". سيؤسّس المسيح مملكة "الحقّ والعدل في الأرض" لتكون له وللمؤمنين به للأبد.
أمّا تلاميذُ يسوع فكانوا قد توقّعوا منه أن يُظهِر "مملكتَه للحال" يومَ دخلَ أورشليم فرتّلوا له: "مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبّ"! وإذْ لم تكنْ تلك مشيئتُه يومَها، أوضحَ لهم: "مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ... الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا" هذا لا يعني أنّه لا يُريد أن يؤسّس مملكة أرضيّة، فسيأتي وقت ستكون مملكته هنا وما علينا سوى أن نتوقّعَها ونطلبَها وننتظرَها.
فمُلكُ المسيح الآن روحيٌّ وستأتي اللحظةُ عندما يُعلِن ملكوتَه بوقٌ وأجواقٌ سماويّةٌ فلا يقدرُ أحدٌ أن يُنكِرَ قدومه أو أن يرفضَ سلطانه. "ثُمَّ بَوَّقَ الْمَلاَكُ السَّابِعُ، فَحَدَثَتْ أَصْوَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ قَائِلَةً: قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبّنَا وَمَسِيحِهِ، فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِين". سيُرافق استعلانَ ملكوتِ المسيح استعلانُ قوّته وجلاله فينحني أمامَه الملوكُ والرؤساء وكلّ عليّ ودنيّ "وَسَمِعْتُ كَصَوْتِ جَمْعٍ كَثِيرٍ، وَكَصَوْتِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ، وَكَصَوْتِ رُعُودٍ شَدِيدَةٍ قَائِلَةً: هَلِّلُويَا! فَإِنَّهُ قَدْ مَلَكَ الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ".
الدخولُ إلى الملكوتِ محصورٌ بالذين قبلوا المسيح مخلّصًا وربًّا وطلبوا ملكوتَه. لا يقدرُ أن يحجزَ أحدٌ مكانًا لنفسِه في ملكوتِ الله بالسياسةِ والسيفِ والمالِ والنسبِ والإنتماءِ المجتمعيّ والدينيّ، بل باختبارِ التّحرّرِ من سلطانِ الظّلمةِ والإنتقالِ إلى ملكوتِ الله "الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ".
ما الّذي نفعلُه لنحجزَ لأنفسِنا مكانًا في الملكوتِ الآتي؟ الجوابُ بسيطٌ: نطلبُ ملكه علينا الآن. طلب اللّصّ المصلوبُ قرب المسيح منه برجاء وإيمان: "اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ". وَعَدَهُ المسيح: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ". هذا التائبُ لم يكنْ فيلسوفًا ولا لاهوتيًّا إلّا أنّه كان مُخلِصًا مع نفسِه فاستفادَ من اللحظةِ الّتي لو عبرَت لخسرَ نفسَه إلى الأبد. والمسيح أكرمَه وأدخلَه ملكوتَه.
المؤسف أنّ كثيرين يرفضون الكلام عن موضوع المجيء الثّاني للمسيح، ومعظمُهم يقولُ: "لاَ نُرِيدُ أَنَّ هذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا". أمّا المؤمن فيعرفُ أنّ لطلبة "ليأتِ ملكوتُك" طبيعتين: تبشيريّة وأُخرَوِيّة. فهو من جهة يُطيع المسيح بالإتيان بالنّاس لسلطانه، ومن جهة أخرى يرجو مجيء المسيح لتأسيسِ "ملكوته الأبديّ".
هذا الّذي يطلب "ليأتِ ملكوتك" يعرف أنّه ما من ملكوت أفضل من ملكوت الله. فممالكُ النّاس المتهالكة مبنيّةٌ على القهر والتّسلّطِ والإذلالِ والشّقاء والخوف. أمّا ملكوت الله الأبديّ فهو مبنيّ على محبّة الله وإحسانه. من اختبر هذه المحبة يطلب بإيمان: "ليأتِ ملكوتك"، ويصرخ برجاء: "مَارَانْ أَثَا"، ويدعو بثقة: "آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ".