منذ تشكيله "حكومة العهد الأولى"، حقق رئيس الحكومة سعد الحريري مكاسب عدّة، ضارباً أكثر من عصفورٍ بحجرٍ واحد، أقلّه على المستوى "الشعبيّ"، بدءاً من التشكيلة التي خرج بها، وخصوصاً لجهة "رمزيّة" توزير امرأة في موقع وزارة الداخلية، وصولاً إلى ردّه الناري على اتهامات رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط المباشرة له.
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الحريري الذي رفع شعار أنّ "رئاسة مجلس الوزراء لن تكون مكسر عصا أو فشة خلق لأحد"، نجح إلى حدّ بعيد في إعادة بعضٍ من الهيبة التي كانت افتقدتها رئاسة الحكومة خلال مرحلة تأليف الحكومة، في ضوء ما حُكي عن تفويض الرجل لصلاحياته للآخرين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون ووزير الخارجية جبران باسيل.
ولكن، في مقابل المكاسب التي حقّقها الحريري على المستويين الوطنيّ والشعبيّ، يبدو أنّ تشكيلته الحكوميّة لم تنزل برداً وسلاماً داخل تيّاره "الأزرق"، حيث علت الأصوات "الممتعضة"، على وقع تزايد التحليلات عن تخلي رئيس الحكومة عن "صقوره"، في رسالةٍ ضمنيّة بأنّه يريد أن يكون "القائد"، من دون أيّ منافس...
طيف المشنوق حاضر
توحي معطياتٌ كثيرة أنّ وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق كان "الخاسر الأكبر" من التشكيلة الحكوميّة، هو الذي لم يُخفِ "امتعاضه" منذ إعلان الحريري تطبيق مبدأ فصل النيابة عن الوزارة، مبدأ اعتبر المشنوق أنّه يستهدفه على المستوى الشخصي أولاً وأخيراً، وأدّى إلى "اعتكاف" الرجل، بل ابتعاده، ومقاطعته اجتماعات كتلة "المستقبل" وغيرها.
لم يغادر المشنوق تيار "المستقبل" رسمياً، كما اعتقد كثيرون، لغاية الآن، ولا يزال يلتقي رئيس الحكومة بين الفينة والأخرى، كما حصل الأسبوع الماضي بعد إعلان مراسيم تأليف الحكومة، ولا يفوّت فرصة إلا ويؤكد وقوفه إلى جانبه، وإن كان القاصي والداني يدرك أنّ للرجل "طموحاً جدياً"، قد يكون مشروعاً بتجربة رئاسة الحكومة. ولعلّ ما كان يروَّج كلما ارتفع الحديث عن إمكان "اعتذار" الحريري خلال مرحلة التكليف الطويلة، عن تقديم المشنوق أوراق اعتماده، ومحاولته تصوير نفسه "بديلاً شرعياً" للحريري، ومن قلب بيته "المستقبليّ"، على غرار تجربتي رئيسي الحكومة السابقين فؤاد السنيورة وتمام سلام، لم يكن يأتي من فراغ، ولو حاول الرجل نكرانه مراراً وتكراراً.
عموماً، ظهر "امتعاض" المشنوق بوضوح قبيل عمليّة التسلّم والتسليم مع الوزيرة الجديدة ريا الحسن، المفترض أنّها "رفيقته" في تيّارٍ واحدٍ. فقبل يومٍ من تسليمه الوزارة إلى الحسن، سعى المشنوق إلى تسجيل "انتصارٍ شكليّ"، حين أصدر مكتبه الإعلامي بياناً أعلن فيه أنّه مَن طلب مِن المسؤولين الأمنيين في وزارة الداخلية إزالة الحواجز الإسمنتيّة من أمام مبنى الوزارة، بعدما اصطدم بكميّة الإشادات بالخطوة، التي اعتبرتها شريحة واسعة من اللبنانيين بمثابة "الإنجاز الأول" للوزيرة الجديدة، التي نالت من "الثناء" لمجرد تسميتها أكثر بكثير ممّا كان يعتقد الوزير المشنوق.
صحيحٌ أنّ الشعب لن يكترث بصاحب "الإنجاز"، أكان المشنوق المغادر أو الحسن الوافدة، إلا أنّ مجرّد صدور مثل هذا البيان، يعني أنّ مرحلة "امتعاض" المشنوق لم تنتهِ فصولاً، وأنّ القول إنّه تجاوزها بدليل لقائه الحريري الأسبوع الماضي، ليس دقيقاً، علماً أنّ البعض يسجّل "استعراض" وزير الداخلية السابق ضدّه وليس لمصلحته، وربما لذلك حاول "ترقيع" المسألة خلال حفل التسلم والتسليم بعد الجدل الذي أثارته، خصوصاً أنّ قراراً بإزالة الحواجز لا يمكن أن يتّخذه قبل يومٍ من مغادرته الوزارة، إلا إذا كان يحاول الإيحاء بأنّ الخطر الذي تطلّب وضعها يطاوله على المستوى الشخصي، أو كان يسعى إلى كشف الوزيرة الجديدة أمنياً، أو أنّه كان يدرك، وهو المرجّح، أنّ الوزيرة ستلجأ لهذا الخيار، فقرّر أن يسبقها، لعلّه يكسب بعضاً من "الحسنات".
خطة الحريري تنجح...
بمُعزلٍ عن "مسرحية" الخلاف على "الأسبقية" بين المشنوق والحسن، في لحظات التسلّم والتسليم بينهما، والتي كانت لتكون مفهومة أكثر لو أنّها تحصل بين خصمين، لا وزيرين يفترض أنهما ينتميان إلى تيّارٍ واحدٍ، فإنّ الأكيد أن المشنوق "المعتكف" أصلاً، ليس "الممتعض" الوحيد داخل تيار "المستقبل"، الذي يشهد حالة "شرخ" حتى في صفوف الملتزمين والمحازبين، غير المشكوك بانتمائهم.
وقد يكون القياديّ في التيار النائب السابق مصطفى علوش أكثر الحالات وضوحاً على هذا الصعيد، فالرجل الذي وُعِد بالمنصب الوزاريّ، تماماً كما وُعِد بالمقعد النيابيّ قبله، والذي يقول في مجالسه العامة والخاصة إنّه قدّم الكثير من "التضحيات" إلى التيّار، خرج مجدّداً خالي الوفاض، علماً أنّ ما زاد امتعاضه أنّه لم يتبلّغ رسمياً بعدم توزيره قبل إعلان التشكيلة الحكوميّة، نتيجة "فيتو" من هنا أو حساباتٍ متباينة من هناك، مع أنّ لقاء جمعه برئيس الحكومة قبل ساعاتٍ من إبصارها النور.
وفيما يؤكد علوش، بخلاف المشنوق، أنّه "طوى الصفحة"، نافياً كلّ حديث عن إمكان انسحابه من "المستقبل"، أو ابتعاده عن الحريري، مثله مثل كثيرين من "صقور" التيار الذين آثروا "الصمت"، ثمّة قناعة تترسّخ لدى كثيرين بأنّ "الشرخ" الذي رُصِد في الساعات الماضية، لن يطول ولن يتمدّد، وأنّ خطّة رئيس الحكومة بفرض سيطرته داخل تيّاره هي التي ستنجح في نهاية المطاف، منهية أسطورة "الجناحين" التي سادت لفترةٍ طويلةٍ، خصوصاً في المرحلة التي "اغترب" فيها الرجل، ما سمح للسنيورة مثلاً بتأسيس "جماعته" إن جاز التعبير.
هكذا، يعتقد الحريري أنّ تغييب "الصقور" عن تشكيلته، من أمثال المشنوق وعلوش، وعددٍ من الوزراء السابقين "المتمايزين" كمحمد كبارة ومعين المرعبي على سبيل المثال لا الحصر، وقبلهم أشرف ريفي الذي لم يتردّد في التمرّد على التيّار، يصبّ في صالحه، منعاً لأيّ "ازدواجيّة" جديدة في موقف التيّار، كما حصل مثلاً الشهر الماضي، حين اضطر الحريري لإبلاغ وزير الخارجية تأييده لمواقفه من قضيّة النازحين، في وجه مواقف الوزير المرعبي المحسوب عليه، ومنعاً لأيّ "تمرّد" كما حصل مع ريفي سابقاً، وكاد يحصل مع المشنوق، لو سنحت له الفرصة.
أحادية الزعامة...
ليست المرّة الأولى التي يواجه "تيار المستقبل" شرخاً أو انقساماً في داخله، لكنّها المرّة الأولى ربما التي يبدو فيها الحريري حازماً ومستعداً للمواجهة، استكمالاً لخطةٍ كان بدأها منذ ما بعد الانتخابات النيابية، حين لم يتردّد في تكريس مبدأ "المحاسبة" عبر اتخاذ سلسلة قرارات أقصى من خلالها قياديّين نافذين داخل التيّار.
يريد الحريري أن يقول للجميع إنه "الزعيم" داخل تيّاره، وأن لا مكان لمن يريد أن ينافسه على "الزعامة"، مقتدياً بالأحزاب الحليفة والخصمة، التي تكاد تشبه بعضها من حيث "أحادية الزعامة". وإذا كان الرجل بدأ ينجح في تلك المهمّة بشكلٍ أو بآخر، فإنّ الرسالة الأهمّ تبقى في أدائه في المرحلة المقبلة، ومقاربته لمختلف الاستحقاقات، فإما يثبّت "زعامته" بالملموس، بعيداً عن فرضيات "خضوعه" لهذا الفريق أو ذاك، بموجب هذه التسوية أو تلك، وإما يطلق يد "خصومه" داخل تيّاره قبل خارجه...