لا يزال الرئيس الاميركي دونالد ترامب يتمسك بالقرار الذي اتخذه بالانسحاب الاميركي العسكري من سوريا، رغم الانتقادات التي وجّهت اليه في الداخل والخارج على حدّ سواء، ورغم القرار الاخير لمجلس الشيوخ الاميركي بالموافقة على تعديل ينتقد القرار الرئاسي. ولكن الأهم من ذلك، كان الاختلاف في وجهات النظر بين ترامب والسلطات العراقية حول كلام الرئيس الاميركي ببقاء قواته في العراق لمراقبة ايران، اذ استتبعه رد من الرئيس العراقي برهم صالح اكّد فيه ان "ترامب لم يطلب اذناً من العراق لمراقبة ايران من اراضيه". هذا الاختلاف من شأنه ان يتطور الى خلاف بين البلدين لاسباب عديدة، ومنها غياب التناسق والانسجام بين السلطات الاميركية والعراقية (وهو ما ظهر بوضوح خلال الزيارة الاخيرة التي قام بها الرئيس الاميركي وعقيلته الى القوات الاميركية المرابضة في العراق وما تخللها)، والاحراج الذي يمكن ان تسببه للعراقيين الذين باتوا يتمتّعون بعلاقات جيّدة مع ايران، ناهيك عن الانباء التي تردّدت انهم يدينون لايران بأكثر من ملياري دولار ثمناً للنفط والغاز المستورد في الفترة الاخيرة.
ولكن الأهمّ من ذلك كله، هو قدرة ايران على احداث مشاكل حقيقية في العراق، ان بالنسبة الى العراقيين او بالنسبة الى الاميركيين ايضاً، فقد بات الايرانيون لاعبون اساسيون على الارض العراقيّة بشهادة الجميع، حتى انهم اكتسبوا غطاء شرعياً عسكرياً خلال الحرب على "داعش" وهو موضوع لا يمكن القفز فوقه من قبل الاميركيين او أيّ دولة اخرى. وها ان ترامب قد وجد نفسه امام معضلة، لأنّ سلاحه الاقتصادي سيضمن له فقط عدم وقوع خصام او قطيعة رسميّة بين البلدين لان تبعات ذلك على الاقتصاد العراقي كارثيّة، كما ان واشنطن قادرة ايضاً على زعزعة الاستقرار في هذا البلد بشكل طبيعي ودون عناء يذكر.
ولا يزال كلام ترامب غامضاً بعض الشيء، لان رغبته في مراقبة ايران من العراق، تحمل تفسيرين: الاول هو مراقبتها داخل الاراضي العراقية، والثاني هو متابعتها خارج هذه الاراضي. وفي الحالتين، الاحراج حصل للعراقيين، ولترامب أيضًا الذي لن يجد مساحة كافية من الحريّة للتحرك داخل العراق بهذه الطريقة الاستفزازية. وقد يكون قد راود الرئيس الاميركي بعض الندم جرّاء قراره الاخير الانسحاب من سوريا، لانه فقد هناك هامشاً كبيراً من الحريّة في التحرك الميداني، وبالتالي حصر نفسه عملياً في العراق فقط، مع حدود صغيرة وضعها للجنود الاميركيين هناك، رغم الافضليّة الكبيرة التكنولوجيّة في مراقبة التحركات للروس والايرانيين والاتراك وجميع اللاعبين في المنطقة.
لم يقنع السبب الذي صرّح به ترامب المحلّلين والمتابعين للاوضاع في الشرق الاوسط، فمراقبة الايرانيين لا تكون بالضرورة من العراق، وبدا من كلامه انه يرغب في إحراج العراقيين اولاً، وفي اعطاء ذريعة لبقاء القوات الاميركيّة هناك، في مقابل الرغبة المفرطة التي ابداها للانحساب من سوريا، للقول انه لن يفرّط بالتواجد العسكري الاميركي في الدول الساخنة، فهذا التواجد المهم لاميركا في الخليج لن يهتز او يتراجع، ولكن الحفاظ على نقاط ميدانيّة ثابتة في بعض البلدان أمر لا مفرّ منه من الناحية الاستراتيجية للدول الكبرى.
لن يتراجع ترامب عن قراره بالانسحاب من سوريا، ولكن السؤال يكمن في مدى التعويض الذي سيؤمّنه بقاء القوات الاميركيّة في العراق عن الخروج من سوريا، وهل سينتفي هذا الوجود في حال إعادة وصل ما انقطع من خطوط بين واشنطن وطهران، ام ان هناك ذريعة اخرى ستظهر في حينه؟.