هل يوقع الإسلام عامة والإسلاميّون خصوصًا، على ما جاء بوثيقة "الأخوة الإنسانية" بما تحمل من قيم السلام فتخدم فكرة العيش المشترك والإنسان. إن هذه الوثيقة التي وقّعها قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الشريف الإمام الاكبر أحمد الطيب، بين الإعداد والتطبيق انتظارات.
لربما كان العالم ينتظر من القطبين الإسلامي السني والمسيحي الكاثوليكي، وثيقة هدفها الحوار ما بين الأديان، فيما يخص الهدف الأعلى من الإيمان بالله وبالعقائد الإيمانية من قبل الطرفين.
إلا أن هذه الوثيقة قد بنيت في مقدمتها على ما تختزن الديانتان المسيحية والإسلامية، من إيمان وإجلال ومحبة وعبادة لله، وتفعيلها ومشاركتها مع الآخر، من مبدأ أن الله قد خلق الناس أجمعين، مع احترام وتقدير الحرية الدينية بمعنى شركة في المحبة ووحدة في التنوع الإنساني. انطلاقًا من هنا، لقد أتفقا على تحديد الوجع الإنساني في عالم اليوم، وهو "سواءٌ على مُستَوى التقدُّم العِلميِّ والتقنيِّ، والإنجازاتِ العلاجيَّة، والعصرِ الرَّقميِّ، ووسائلِ الإعلامِ الحديثةِ، أو على مستوى الفقرِ والحُروبِ، والآلامِ التي يُعاني منها العديدُ من إخوتِنا وأخَواتِنا في مَناطقَ مُختلِفةٍ من العالمِ، نتيجةَ سِباقِ التَّسلُّح، والظُّلمِ الاجتماعيِّ، والفسادِ، وعدَمِ المُساواةِ، والتدهورِ الأخلاقيِّ، والإرهابِ، والعُنصُريَّةِ والتَّطرُّفِ، وغيرِها من الأسبابِ الأُخرى".
إذا لقد وجدت هذه الوثيقة من حيث المبدأ لتجمع الإنسانية بأكملها، من يؤمن بالله الخالق ومن لا يؤمن "لتكونَ إعلانًا مُشتَركًا عن نَوايا صالحةٍ وصادقةٍ من أجل دعوةِ كُلِّ مَن يَحمِلُونَ في قُلوبِهم إيمانًا باللهِ وإيمانًا بالأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ أن يَتَوحَّدُوا ويَعمَلُوا معًا".
تبدأ هذه الوثيقة "باسم الله"، "باسم النفس البشرية الطاهرة"، "باسم الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين"، "باسم الأيتام والآرامل والمهجرين والنازحين"، "باسم الشعوب التي فقدت الأمن والسلام والتعايش"، وايضًا "باسم الأخوة الإنسانية" و"باسم الحرية".
وُلدت هذه الوثيقة بالمسؤولية الموكلة على الطرفين الدينية والأدبية، وُجّهت إلى العالم بأسره، بداية إلى قادة العالم وصنّاع السياسات الدوليّة والاقتصادية العالميّة، من اجل نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، بوقف الحروب وسيل الدماء، كما بما يخص التراجع المناخي والانحدار الثقافي والأخلاقيّ. وأيضًا إلى المفكرين والفلاسفة ورجال الدين والفنانين والاعلاميّين والمبدعين لنشر قيم السلام والعدل والخير والجمال. وبعد الإقرار وتقدير نجاحات منتجات الحضارة المعاصرة، إلا أن تغييب الضمير الإنساني وإقصاء الأخلاق الدينية، وقلب المقاييس من خلال "وضع القيم المادية الدنيوية موضع المبادئ العليا المُتسامية".
فلا عجب إلى هنا من توقيع هذه الوثيقة من قبل هذين الطرفين، إلا من أن يحصل البابا على توقيع الشيخ الأزهر في ما يخص القسم الثاني من هذه الوثيقة التي تتطرق إلى التّطرف الديني والتشدّد الأعمى، إنما لأمر مهم ويستدعي الدهشة، وهذا ما اتفق الطرفان على تسميته "حرب عالميّة ثالثة على أجزاء" والتي خلفت عدد لا يحصى من الضحايا. ونبهت هذه الوثيقة أيضًا على أن ما زال يوجد أماكن يجري إعدادها لمزيد من الانفجار... فهل يستطيع الطرفان الإلتزام بتوقيف التطرف الديني الحاصل ويقولان: "إنَّنا نُؤكِّدُ أيضًا على أهميَّةِ إيقاظِ الحِسِّ الدِّينيِّ والحاجةِ لبَعْثِه مُجدَّدًا في نُفُوسِ الأجيالِ الجديدةِ عن طريقِ التَّربيةِ الصَّحِيحةِ والتنشئةِ السَّليمةِ والتحلِّي بالأخلاقِ والتَّمسُّكِ بالتعاليمِ الدِّينيَّةِ القَوِيمةِ لمُواجَهةِ النَّزعاتِ الفرديَّةِ والأنانيَّةِ والصِّدامِيَّةِ، والتَّطرُّفِ والتعصُّبِ الأعمى بكُلِّ أشكالِه وصُوَرِه".
أكدت الوثيقة على أن هدف الاديان المشترك هو الإيمان بالله وعبادته، كما حث جميع البشر على عبادته، إلا أن هبة الحياة التي هي منه، لا يحق لأي كان أن ينتزعها منذ البداية حتى الرمق الأخير. فتدين الوثيقة كل الممارسات التي تهدد الإنسان، كالإبادةِ الجماعيَّةِ، والعَمَليَّاتِ الإرهابيَّة، والتهجيرِ القَسْرِيِّ، والمُتاجَرةِ بالأعضاءِ البشَرِيَّةِ، والإجهاضِ، وما يُطلَقُ عليه الموت (اللا) رَحِيم، والسياساتِ التي تُشجِّعُها". يبقى السؤال، هل يستطيع شيخ الأزهر على العمل من أجل توقيف العمليّات الإرهابيّة التي تقوم بها الجماعات الإسلامية المتطرفة، كما يستطيع البابا من إيقاف عمليات الإجهاض والموت الرحيم التي تتكاثر يوم بعد يوم في المجتماعات الغربية؟
إلا أنهما يقرّاران بأنّ ما حصل ويحصل باسم الدين من حروب وبث مشاعر كراهية وعداء وتعصب وتشجيع للعنف وإراقة الدماء إنما هي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينيّة، كما هي نتيجة استغلال الأديان في السياسة، وبشكل مباشر من طائفة من رجال الدين، فهل يستطيع شيخ الأزهر من التكفير على الأقل رجال الدين الذين يؤولون الدين الإسلامي بطريقة خاطئة ويحملون الإسلام اوزار النصّ الديني واديولوجياتهم ومفاهيمهم العقيمة. كما يفعل الفاتيكان بمراقبة التعاليم الإكليريكيات والأساتذة والكتب من خلال مجمع العقيدة والإيمان من أجل الحد من كل انحراف عقائدي. وهل ستوقف هذه الوثيقة التاريخية من زج اسم الله في الحروب، و"أعمالِ القتلِ والتشريدِ والإرهابِ والبَطْشِ؛ لإيمانِنا المُشتَرَكِ بأنَّ الله لم يَخْلُقِ الناسَ ليُقَتَّلوا أو ليَتَقاتَلُوا أو يُعذَّبُوا أو يُضيَّقَ عليهم في حَياتِهم ومَعاشِهم، وأنَّه - عَزَّ وجَلَّ - في غِنًى عمَّن يُدَافِعُ عنه أو يُرْهِبُ الآخَرِين باسمِه".
فإذا توصلت هذه الوثيقة التي وقعها قداسة الحبر الأعظم والشيخ الأزهر إلى بث القناعات الراسخة في الضمير الإنسانيّ حول التعليم الصحيح للاديان التي "تَدعُو إلى التمسُّك بقِيَمِ السلام وإعلاءِ قِيَمِ التعارُّفِ المُتبادَلِ والأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ والعَيْشِ المشترَكِ، وتكريس الحِكْمَةِ والعَدْلِ والإحسان".واحترام مبدأ الحرية اعتقادًا وفكرًا وتعبيرًا وممارسة، مع التشديد على العدل القائم على الرحمة. وتفعيل دور الحوار والتلاقي بين الناس من خلال تجنب الجدل العقيم، الذي لم يتطرق له هذان الرجلان، بل نشر التسامح وقبول الآخر والتعايش، التي عبّرا عنها من خلال حماية دور العبادة، من استهدافها بالاعتداء والتفجير والتهديم، باعتبار أن هذه الأعمال هي خروج صريح عن تعاليم الأديان، وعلى أن الإرهاب ليس نتاجًا للدين، حتى ولو رفع الإرهابيون الشعائر الدينية، فهي نتيجة تراكمات تلقي النصّ الديني بطريقة خاطئة.
تدعو وثيقة "الأخوة الإنسانية" أيضًا إلى مفهوم المواطنة الكاملة والتخلي عن المفهوم الإقصائي. وتشدد على دور المرأة وحقها في التعليم والعمل وممارسة حقوقها السياسية كما توجب تحريرها من الضغوط التاريخية والاجتماعية المنافية لثوابت عقيدتها وكرامتها، فهل هذا ممكن تحقيقه في المجتمعات الإسلامية؟ أضف إلى ذلك حقوق المسنين والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة كما المستضعفين.
نعم إن هذه الوثيقة هي برنامج عمل ومشروع ودعوة إلى التصالح ليس فقط بين المسيحية والإسلام، بل بالأساس هي ورقة عمل يحملها البابا فرنسيس إلى المجتمع الإسلامي للعمل على تطبيقها من خلال مواجهة الماضي واخطائه والتصالح معه من أجل حاضر افضل، ومستقبل يليق بالإنسانية، وشجاعة الإعتذار عن الأخطاء التي ارتكبت وما زالت ترتكب باسم الدين، كما هي دعوة ضمنية لقراءة النصوص الدينية بتأويلات الحاضر الجديد.
فإذا وصل الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر إلى بث هذه الروح في الديانة الإسلامية عامة، وفي الطائفة السنية الكريمة، يكون قد وصل البابا فرنسيس ليس إلى ابداع سياقات جديدة لقراءة النصّ الديني المسيحي، إذ اعطى آفاق جديدة وأجوبة جديدة ومختلفة، لتجاوب ولتشفي عطش الإنسانية إلى الله من خلال المؤسسة الدينية المسيحية، وها هو الآن في هذه الوثيقة يوصل هذه الروح الى العالم الإسلامي، فهل ينجح؟
لابد من استرجاع نداء البطريرك الماروني بشاره الراعي في دعوة تنظيم الدولة الاسلامية "داعش" إلى الحوار الإنساني سنة 2014، فلم ير قبول من المجتمع الإسلامي وحسب، بل لقى رفضًا حتى من المجتمع المسيحي نفسه، ولا ننسى مطالبات الازهر الشريف بتكفير من يستعمل الإسلام في التطرف للقتل والارهاب!
فهل اتت الساعة من خلال هذه الوثيقة التاريخية لتعيش الاديان بسلام؟ ويقبل الأخ أخاه مع الاحترام ميزة الإختلاف والتمايز في مفهوم الأخوة الإنسانية الشاملة!.