14 شباط 2005 هو يوم مفصلي في تاريخ لبنان الحديث، حيث تسبّب إغتيال رئيس حُكومة لبنان السابق رفيق الحريري في إندلاع شرارة "ثورة الأرز" في تلك المرحلة، والتي نجحت-في ظلّ الظُروف الإقليميّة والدَوليّة المُؤاتيّة آنذاك، في دفع رئيس الحُكومة في حينه عُمر كرامي إلى الإستقالة في 28 شباط من العام نفسه، وفي دفع جيش الإحتلال السُوري إلى الإنسحاب من لبنان بشكل كامل في 26 نيسان، وفي فوز قوى "14 آذار" في الإنتخابات النيابيّة التي نُظّمت على مراحل بين 29 أيّار و19 حزيران. وإرتدادات إغتيال "14 شباط" وإنتفاضة قوى "14 آذار"، شملت أيضًا عودة رئيس "التيّار الوطني الحُرّ" آنذاك العماد ميشال عون من منفاه، وخروج رئيس حزب "القوات اللبنانيّة" سمير جعجع من سجنه، في الوقت الذي جرى فيه إنشاء "المَحكمة الدَوليّة" من أجل لبنان، وتوقيف أربعة من كبار الضبّاط والمسؤولين الأمنيّين اللبنانيّين... فما الذي تغيّر بعد مُرور 14 عامًا على 14 شباط 2005؟.
بالنسبة إلى "المَحكمة الدَوليّة" الخاصة بلبنان فإنّ حُكمها النهائي سيصدر خلال العام 2019 الحالي، بعد سنوات من الأخذ والردّ، بين من يؤيّد عمل هذه المحكمة ومن يرفضها من أساسها، علمًا أنّ الحُكم المُنتظر صُدوره في جريمة 14 شباط 2005، سيكون مَعنويًا، وخاليًا من أيّ إجراءات جزائيّة على الأرض بحق المُتهمين المُتوقّع إدانتهم، بسبب تغيّر موازين القوى جذريًا في لبنان. ولا شكّ أنّ هذا الحُكم الذي طال إنتظاره سيُحدث زوبعة إعلاميّة داخليًا، وسيدخل في سياق الحسابات السياسيّة الإقليميّة والدَوليّة والضُغوط المُمارسة خارجيًا على "حزب الله". لكن التسوية المُستمرّة منذ أشهر في لبنان؛ على الرغم من الخضّات الناجمة عن صراع الأحجام، ستكون كفيلة بامتصاص أيّ إرتدادات للحُكم القضائي الدَولي المُرتقب خلال الأشهر المُقبلة، على الداخل اللبناني.
بالنسبة إلى "التيّار الوطني الحُرّ" الذي كان شريكًا أساسيًا في تظاهرة "14 آذار" 2005، والذي إعتمد باكرًا سياسة مُستقلّة تمامًا بعيدًا عن قوى "14 آذار" الأخرى، فهو نجح في إيصال العماد عون إلى سُدّة الرئاسة، بعد أن نسج "إتفاق تفاهم" مع "حزب الله" في العام 2006، ثم وسّع تفاهماته الداخليّة في مرحلة لاحقة لتشمل حزب "القوّات اللبنانيّة" ومن ثم "تيّار المُستقبل" خلال العام 2016، إضافة إلى تمكّنه من الفوز بأكبر تجمّع نيابي في لبنان خلال إنتخابات العام 2018 التي جرت وفق قانون النسبية الجديدة. وفي ما خصّ المرحلة المُقبلة، فإنّ أهداف "التيّار" تشمل تثبيت أسس الدولة، ودور المسيحيّين فيها، والنُهوض بقطاعاتها ومؤسّساتها، بعيدًا عن الصراعات الإقليميّة والدَوليّة، وعن سياسة المحاور. ومن المُتوقّع بالتالي أن يكون "التيار" خلال الأشهر والسنوات المُقبلة، في موقع المُواجهة ضُدّ أي حزب أو جهة سياسيّة ستُحاول عرقلة مشاريعه للحُكم، بعيدًا عن التموضعات السياسيّة المحلّية الضيّقة السابقة، في الوقت الذي سيبقى أقرب إلى محور "8 آذار" على مُستوى الخط السياسي العريض، نتيجة تفاهمه المُتواصل مع "حزب الله"، وكذلك بفعل نظرته الإيجابية إزاء النظام السُوري، مُنذ إنسحاب سوريا من لبنان من جهة، وبهدف حلّ مُشكلة النازحين السُوريّين في لبنان من جهة أخرى.
بالنسبة إلى قوى "14 آذار" التي إنبثقت من "ثورة الأرز" إثر جريمة إغتيال الحريري، فهي لم تعد قائمة كقُوّة سياسيّة مُوحّدة، وإن كانت المبادئ العامة العريضة ما زالت تجمع بين ثلاثة أركان رئيسة من هذه القوى السابقة، أي كلّ من "المُستقبل" و"القوّات" و"الإشتراكي"، وإن كان إحياء الذكرى السنويّة مُتواصلًا. ومن المُتوقّع أن يُواصل "تيّار المُستقبل" في المرحلة المُقبلة تمسّكه بالتسوية الرئاسيّة التي ثبّتته رُكنًا أساسيًا في الحُكم إلى جانب "التيّار الوطني الحُرّ"، وباقي القوى الرئيسة، حيث سيكون الإهتمام مُنصبًّا خلال عهد الرئيس عون على النُهوض بالأوضاع الإقتصاديّة والحياتيّة والمعيشيّة، إلخ. أمّا حزب "القوّات" الذي بقي مُتمسّكًا بمبادئ قوى "14 آذار"، والذي نجح في توسيع حجمه السياسي، شعبيًا ونيابيًا ووزاريًا خلال العقد الأخير، فهو سيعتمد حاليًا سياسة المُحاسبة على القُطعة، لجهة التأرجح بين المُوالاة والمُعارضة تبعًا للملف الداخلي المطروح، في الوقت الذي سيبقى ثابتًا على مواقفه الإستراتيجيّة والإقليميّة، لكن من دون رفع السقف عاليًا جدًا في المرحلة المُقبلة، إنسجامًا مع مرحلة التهدئة الداخليّة، ولإعطاء فرصة لمُعالجة الأوضاع المُتردّية التي تطال مُختلف اللبنانيّين بدون أي إستثناء. وفي ما خصّ الحزب "الإشتراكي" الذي كان إنكفأ إلى موقع شبه وسطي منذ سنوات طويلة، فمعركته المُقبلة ستكون في السعي لإستعادة موقعه الريادي على الساحة الدُرزيّة في ظلّ تنامي قُوّة "المُعارضات" الداخليّة له، كذلك في السعي لإستعادة موقعه "كبيضة قبّان" على الساحة اللبنانيّة عُمومًا، بعد أن جرى تهميشه من قبل أكثر من فريق سياسي، نتيجة فُقدانه لهذا الدور، الأمر الذي إنعكس إضعافًا لنُفوذ الطائفة الدُرزيّة ككلّ ضُمن التركيبة اللبنانيّة الطائفيّة والمذهبيّة.
بالنسبة إلى قوى "8 آذار" والتي بدورها كان بروزها من ضُمن إرتدادات جريمة 14 شباط 2005، وكتعويض عن إضعاف نُفوذ القوى التي كانت تدور في فلك النظام السُوري آنذاك، فهي تشظّت خلال السنوات الماضية، نتيجة مُعارضة أكثر من طرف من هذه القوى لإنتخاب العماد عون رئيسًا للجُمهوريّة في مُقابل تأييد "حزب الله" بشكل خاص لهذه الخُطوة. وفي ما خصّ المَرحلة المُقبلة، فإنّ أحدًا لا يُمكنه تقدير "مرحلة السماح" التي يُطبّقها رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي إزاء "التيّار الوطني الحُرّ"، في الوقت الذي يُنتظر أن يُشكّل "تيّار المردة" مُعارضة من داخل السُلطة التنفيذيّة، ستتلاقى مع "مُعارضات" متعدّدة من خارجها، تجمع قوى غير مُنسجمة سياسيًا على غرار حزب "الكتائب اللبنانيّة" و"الحزب القومي السُوري" وشخصيّات نيابيّة مُستقلّة، على سبيل المثال لا الحصر.
في الخُلاصة، بعد 14 عامًا على "14 شباط" 2005، المشهد السياسي الداخلي تغيّر كليًا، وصارت "الحقيقة" التي طال إنتظارها بشأن هذه الجريمة، مُجرّد محطّة لا تُبدّل في التموضعات ولا في المواقف ولا في التوازنات. وبالتالي، إنّ التسوية الحاليّة أقوى من حُكم المحكمة الدوليّة القريب، لكن الطريق أمام الحُكومة الجديدة التي نالت الثقة، ليس مفروشًا بالوُرود، حيث يُنتظر أن تبدأ الإعتراضات الداخليّة بالظُهور تدريجًا خلال المرحلة المقبلة، لكن بعيدًا تمامًا عن تموضعات وإنقسامات "8 و14 آذار" السابقة، باستثناء بعض الملفّات المحدودة، ومنها ملف النازحين السوريّين.