قد تكون مزايدة تلزيم تأجير خزانات النفط المملوكة من الحكومة اللبنانية، لشركة «روسنفط» الروسية، الضربة الوحيدة التي تلقاها كارتيل النفط في لبنان. هي ضربة قاسية دفعت أعضاء الكارتيل ورجالاته إلى الصياح من الألم. النائب وليد جنبلاط مثلاً. قد يكون هو الوحيد من بين «رجالات» الكارتيل الذي يملك حصصاً علنية في شركات النفط. ثمة باقة من السياسيين الآخرين الذين يملكون حصصاً «من الباطن»، مقابل توفير الحماية اللازمة للشركات وأرباحها. المهم أن هؤلاء خائفون من العقد بين الحكومة اللبنانية، ممثلة بمنشآت النفط، وبين «روسنفط». فالعقد ينصّ على أنه يحقّ للشركة التي تلتزم استئجار خزانات النفط في طرابلس أن تبيع الكميات المخزنة للشركات التي تملك مصبّاً بحرياً، ويمكنها أن تبيع مباشرة للقطاع العام أيضاً.
هذه البنود في العقد جاءت بعد سلسلة ضغوط قادها تجمّع مستوردي النفط في لبنان قبل إطلاق دفتر شروط المزايدة. ركّز التجمّع على إلغاء كل بند يتعارض مع مصالحه ومع أرباحه الفاحشة. كان الهدف إلغاء منع دخول أي منافس محتمل يقتنص حصّة سوقية من الشركات. فالتجمّع متفق على أن التنافس مسموح بين الشركات ضمن حدود السيطرة على عقود محطات الوقود، ولكن ليس مسموحاً ان يتنافسوا على السعر. بمعنى آخر، إن المادة الأولى من قرارات التسعير التي تصدر عن وزير الطاقة تنصّ على أنه «يحدّد الحدّ الأعلى لسعر مبيعات المحروقات السائلة...»، أي أن القرار يحدّد سقفاً للسعر يمكن الشركات أن تتنافس تحته، لكن لم نشهد قطّ أي شركة تبيع المحروقات أقل من الحدّ الأقصى. هذه هي حدود التنافس في ما بينهم، وهذا هو مصدر قلقهم. فهم تمكّنوا، بالضغط السياسي، من منع الشركة الملتزمة، من أن تبيع في السوق المحلية مباشرة، لكن وزارة الطاقة ومنشآت النفط فرضت في المقابل استثناءات للبيع في السوق المحلية يشمل القطاع العام وكل الشركات التي تملك مصباً بحرياً، أي كل مستوردي النفط الحاليين والشركات التي يمكن أن تنشأ مستقبلاً.
بهذه الخلفية، انطلقت المزايدة. 18 شركة سحبت دفتر الشروط. بينها أكثر من 6 شركات أجنبية، من ابرزها فيتول التي يملك أميركيون أسهماً فيها، ونويز الكندية، وسينوبيك الصينية... حتى إن أميركيين يملكون أسهماً في شركة «روسنفط» الروسية التي فازت في المزايدة، وهي مملوكة من الدولة الروسية بنسبة 51% من أسهمها.
الشروط التي فازت على أساسها «روسنفط»، تتلخص في أن منشآت النفط (المملوكة من الدولة اللبنانية) ستنشئ 18 خزاناً في منطقة طرابلس ضمن ملكيتها بقدرة تخزينية تصل إلى 450 ألف طن. الشركة الفائزة تلتزم استئجار الخزانات لمدة 20 سنة وفق معايير دولية متعارف عليها في هذا المجال ضمن حدّ أدنى لعمليات التخزين وحوافز لزيادة وتيرة التخزين الشهرية، أي إن الشركة تلتزم تسديد المبلغ المتفق عليه على القدرة التخزينية لمدّة شهر واحد على الأقل، ثم تنخفض كلفة التأجير في حال زيادة وتيرة التخزين خلال شهر واحد. والدولة ستخصّص اعتمادات لهذا الاستثمار. فإذا لم تكن كافية هذه الاعتمادات يمكنها أن تطلب من الملتزم أن يدفع دفعات مسبقة عن عمليات التخزين من أجل إنهاء عمليات الإنشاء والتأهيل التي تتطلبها الخزانات. أما عمليات إنشاء الخزانات، فهي الآن في مراحلها الأولى التي قد تتطلب بين ثلاثة أشهر و6 أشهر لبدء الإنشاءات التي تتطلب نحو 18 شهراً.
إذاً، خلال سنتين سيكون لدى لبنان قدرة تخزينية. المقلق بالنسبة إلى شركات النفط، أن بإمكان الشركة الروسية أن تنشئ شركة محلية لديها مصبّ بحري، أو أن تشتري أياً من الشركات التي تملك مصبّاً بحرياً، ولا تحقق أرباحاً كافية للاستمرار في السوق المحلية، ما يتيح لها بيع الكميات المخزّنة لديها في لبنان، ويمكنها ايضاً أن تشعل المنافسة مع أعضاء الكارتيل وأن تبيع بأسعار أقل بكثير يستفيد منها المستهلك وتكشف الأرباح الطائلة التي حققها التجار منذ سنوات.
طبعاً، ما سبق ليس هدفاً استراتيجياً لدى «روسنفط» إلا أنه أمر محتمل. هذا الاحتمال كان كافياً لأن يدبّ الرعب في أعضاء الكارتيل ورجالاته. زيارتهم للنائب وليد جنبلاط جاءت في هذا الإطار. فهذا الرجل، يملك أسهماً في شركتين تعملان في مجال النفط. الشركة الأولى هي «كوجيكو» التي باع 60% منها لشركة «هيبكو» المملوكة من آل البساتنة الذين يستخدمون خزاناتها وينفذون غالبية عمليات البيع عبر «هيبكو»، ويدفعون لجنبلاط حصّة من الأرباح. مجمل حصّة شركات جنبلاط والبساتنة من مبيعات البنزين والمازوت في لبنان تتجاوز 10%.
الشركة الثانية هي «صيداكو». هذه الشركة واحدة من كارتيل يتألف من خمس شركات تستحوذ على استيراد الغاز المنزلي إلى لبنان. هذه الشركات تستأجر من الدولة خزانات بقيمة 1.5 مليون دولار فقط من أجل إقفالها ومنع استعمالها واحتكار الاستيراد والمبيعات. حصّة صيداكو من الاستيراد تتجاوز 30% من مجمل الواردات البالغة 220 ألف طن في 2017. وبحسب السجل التجاري، فإن «صيداكو» مملوكة من النائب وليد جنبلاط، والنائب نعمة طعمة وجورج متى و«غاز لبنان هولدينغ». هذه الأخيرة مملوكة أيضاً من جنبلاط وطعمة ومتى، إلا أن بين مؤسسيها، نبيه الصيداني ومحمود الصيداني ونزيه الصيداني الذين يملكون شركة «يونيغاز». وتملك «غاز لبنان»، أيضاً، مجموعة شركات متخصصة بالعمل على الغاز؛ أبرزها «ناتغاز» التي يبرز بين مؤسسيها بيار ميشال فرعون وبيار هنري حلو، إلى جانب جنبلاط وطعمة وغيرهم. أما مالكو «غاز لبنان»، فهم جنبلاط وابنه تيمور وطعمة إلى جانب شركات أجنبية مصدرها «غير محدد» في السجل التجاري وهي: «جستمار أنترناشيونال» (23.88%)، «الوود فيننس انك» (32.99%)، «بندر أوفرسيز انك» (6.99%)، «ارنال فيننس» (36.12%).
الأرباح المقدرة من مبيعات الغاز المستورد تصل إلى 200 دولار على كل طن غاز، فيما الأرباح المقدرة من مبيعات كل طن مستورد من البنزين والمازوت فهي تصل إلى 30 دولاراً. أي إن أرباح صيداكو تصل إلى 13٫2 مليون دولار، فيما أرباح «هيبكو» و«كوجيكو» تصل إلى 6 ملايين دولار «ما عدا السهو والخطأ» على حدّ تعبير أحد المطلعين على الجانب الأسود من عمليات استيراد النفط.
خزانات «استراتيجية»
لا يأبه تجمع مستوردي النفط ولا شركاؤه السياسيون للأهمية الاستراتيجية الكامنة في امتلاك لبنان خزانات نفط. روسنفط و18 شركة أخرى كانت لديها فكرة واضحة عن هذه الأهمية. فالموقع الجغرافي على المتوسط بالقرب من أسواق استهلاكية أساسية، كدول أوروبا الجنوبية، يجعل الاهتمام بمواقع تخزينية في لبنان أمراً حيوياً لشركات النفط، ولا سيما تلك التي تستورد الكميات عبر ممرات بحرية عليها الكثير من الطلب والضغط، وفيها الكثير من عدم الاستقرار المناخي. فضلاً عن أن الاهتمام الروسي بالتحديد يعزى إلى العقود التي حصلت عليها الشركات الروسية في كركوك، فيما لدى لبنان خط نقل مباشر مع العراق (متوقف عن العمل حالياً) يمكن استخدامه لنقل الكميات المنوي تخزينها ثم بيعها. وأهمية الموقع اللبناني لا تقل عن أهمية المرونة في الاستخدام.
فبحسب مصادر مطلعة، تملك تركيا قدرات تخزينية هائلة، لكن لديها الكثير من القيود التي تعوق عمل الشركات العملاقة في مجال استيراد النفط وتصديره، فيما كانت لدى لبنان الفرصة في منح هذه الشركات المرونة اللازمة للعمل في مجال مزج المشتقات النفطية وخلطها وفقاً لمواصفات البلدان التي تصدّر إليها.
أرباح خيالية طارت... والروس يعرضون المزيد
يكشف مصدر مطلع أن الشركة الروسية «روسنفط» أبلغت جهات معنية في لبنان بأنها مهتمة ببناء المزيد من الخزانات، ما يسمح بتخزين كمية تصل إلى حدود مليون ونصف مليون طن من المشتقات النفطية. وأشارت الشركة إلى قدرتها على توفير جميع حاجات الدولة اللبنانية عبر هذه الخزانات، وهي تشمل الفيول المطلوب لمعامل الكهرباء وحاجات المؤسسات الرسمية المدنية والعسكرية، إضافة إلى تغذية السوق المحلية للتجار الصغار، وأن أسعارها ستكون مختلفة جداً عن الأسعار القائمة حالياً، وأن مشروعاً بهذا الحجم سيزيد من واردات الدولة مقابل استثمار الخزانات والأراضي اللبنانية من جهة، وسيحقق وفراً قد يلامس 30 بالمئة من كلفة شراء حاجات الدولة، وسيوفّر ما يوازي 20 بالمئة من الكلفة على المستهلك.
الجانب الروسي يبدو متحمساً أكثر لتوسيع دوره في مجال الغاز المستخرج من البحر أيضاً، وهو يعرض المساعدة في إنشاء شبكات لوجستية تحتاجها الشركات المستثمرة على الأرض، بالإضافة إلى استعداد روسيا للعمل على تسويق الغاز اللبناني المستخرج.
يشار إلى أن قرار تسليم الجيش اللبناني حاجاته من المحروقات من المنشآت النفطية مباشرة، وليس عبر شركة «مدكو» قد حقق وفراً كبيراً على الدولة، ولا تزال المؤسسات المعنية ترفض الكشف عن الفروقات الحقيقية في الأسعار، علماً أن مصدراً رسمياً أوضح لـ«الأخبار» أن بعض الوثائق باتت متداولة وتشير إلى «أرباح خيالية» كانت قائمة.