صحيحٌ أنّ "فاعليات" إحياء ذكرى اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري تغيّرت منذ سنوات، مع بدء انفراط عقد قوى "14 آذار"، وما فرضهذلك من انتقال من الساحات المفتوحة إلى المُغلقَة، إلا أنّ الصحيح أيضاً أنّ "تيار المستقبل" يسعى هذا العام، إلى استعادة بعض "الهيبة" للذكرى، بما لها من رمزيّة وخصوصيّة بحجم الوطن.
ولعلّ المسعى يأتي خصوصاً لتعويض "الأضرار" التي لحقت بالذكرى العام الماضي، حين تغيّب عن الاحتفال رؤساء وقادة الأحزاب التي وُلد تحالفها من رحم دماء الحريري الأب، وفي مقدّمهم رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي لم يفوّت هذه المناسبة في السابق، فيما انسحب آخرون لإشكاليات "بروتوكوليّة"، على غرار حزب "الكتائب".
ومع أنّ الحديث عن تحالف "14 آذار" لم يعد مجدياً اليوم، بعد "الانقلاب" الذي شهدته الخريطة السياسية عن بكرة أبيها، إلا أنّ ثمّة من يقول إنّ رئيس الحكومة سعد الحريري يريد أن تكون ذكرى 14 شباط لهذا العام، انطلاقة جديدة من وحي الظروف السياسية المحيطة، وانسجاماً مع الانطلاقة المرتقبة لحكومته الجديدة، وهو ما يختصره اسمها، "إلى العمل"...
الظروف أفضل
لا يمكن الحديث عن تحالف متجدّد بين قوى "14 آذار"، التي لا تزال العلاقة بين مكوّناتها متأرجحة إلى حدّ بعيد، إلا أنّ ما لا شكّ فيه أنّ ظروف العلاقة بين تيار "المستقبل"وأفرقاء "14 آذار" تبدو اليوم أفضل بكثير من السابق، وتحديداً ممّا كانت عليه في العام الماضي، ما تسبّب بـ "الضبابيّة" التي أحاطت الذكرى، وبالتالي غياب "القادة" عنها.
ولعلّ العلاقة بين "تيار المستقبل" و"القوات اللبنانية" تتصدّر المشهد على هذا الصعيد، بعد "التوتر" الذي سادها العام الماضي، في أعقاب الأزمة التي أحدثتها استقالة الحريري من العاصمة السعودية، وعودته عنها في بيروت، والمواقف التي أطلقها رئيس حزب "القوات" يومها، والتي اعتبرها كثيرون داخل "المستقبل" في غير صالح رئيس الحكومة. ومع أنّ الحريري يبدو اليوم أكثر التصاقاً بخصم "القوات" التاريخي، أي "التيار الوطني الحر"، إلا أنّ الأكيد أنّ علاقته بجعجع بدأت تعود إلى نصابها، بل إنّها تعزّزت في مرحلة تأليف الحكومة، إذ إنّ الحريري مقتنعٌ بأنّ جعجع كان من أكثر "مسهّلي" مهمّته، من خلال "التضحيات" التي قدّمها حتى اللحظة الأخيرة.
وعلى المنوال نفسه، تبدو العلاقة بين "تيار المستقبل" و"الكتائب" هذا العام أفضل بكثير من السابق، إذ إنه لم يعد بالإمكان بالحدّ الأدنى الحديث عن "قطيعة" بين الجانبين، كما كان يحصل يوم كان يتجنّب الحريري مصافحة رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل، أو الالتقاء به بمحض الصدفة، بل كان ينسحب من قاعة مجلس النواب حين كان يهمّ الجميل بالحديث خلال الجلسات العامة للبرلمان. ومع أنّ الجميل لا يزال في قواعد "المعارضة"، إلا أنّ الحريري يراهن على أنّ معارضته اليوم باتت أكثر "براغماتية" وأقلّ "شعبويّة"، خصوصاً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، علماً أنّ لقاءاتٍ عدّة جمعت الرجلين في الآونة الأخيرة، وأدّت إلى تجاوز "قطيعة" الماضي.
وإذا كان صحيحاً أنّ "التوتر" مع "القوات" و"الكتائب" انتقل هذا العام إلى "الحزب التقدمي الاشتراكي" في ضوء المعارك المتعدّدة التي خاضها الطرفان منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، والتي كان آخرها قبل أيام بعيد الإعلان عن التشكيلة الحكوميّة الجديدة، فإنّ مؤشرات كثيرة تؤكد أنّ العلاقة غير المستقرّة بين الجانبين تبقى مضبوطة إلى حدّ بعيد. ولعلّ هذا ما يفسّر عودة "الهدوء" فجأة إلى العلاقة من دون سببٍ وجيه، بعد كلّ ما حصل، علماً أنّ هناك من يتحدّث عن وساطاتٍ خارجيّة لعبت هذا الدور، باعتبار أنّ لا مصلحة في "الافتراق" اليوم.
رسائل بالجملة
في الشكل، توحي مؤشّرات عدّة إلى أنّ ظروف "14 شباط" هذا العام تبدو أفضل من العام الماضي، خصوصاً لجهة العلاقة بين مكوّنات ما كان يُعرَف بـ"14 آذار"، وإن كانت عودة الحديث عن "تحالف" حقيقي واستراتيجي بينها أمراً شبه مستحيل، بل إنّ أحداً لا يسعى إليه أصلاً بشكل جدّي وفعليّ.
إلا أنّ اختلاف الشكل ينسحب أيضاً على الظروف السياسيّة المحيطة بالذكرى هذا العام، والتي تختلف بدورها جذرياً عن ظروف الذكرى العام الماضي، حين كانت البلاد قد دخلت في أجواء الانتخابات النيابية، مع "عدّة الشغل" التي تتطلبها هذه الانتخابات، خصوصاً لجهة المناكفات والمشاحنات السياسية، علماً أنّ ذكرى "14 شباط" شكّلت يومها مناسبة لانطلاق الحملة الانتخابية لتيار "المستقبل"، على رغم غموض التحالفات الانتخابيّة يومها، بل غموض الصورة في ظلّ استمرار كثيرين بالحديث عن إمكان الذهاب إلى تمديد جديد لمجلس النواب.
اليوم، تبدو الصورة مختلفة رأساً على عقب، بعد انتهاء مرحلة الانتخابات بحلوها ومرّها، مع تشكيل الحكومة الجديدة قبل أيام، وهو ما سينسحب بطبيعة الحال على مضمون الرسائل التي سيوجّهها الحريري في كلمته المرتقبة، والتي يُعتقَد أنّ الملفّ الاقتصادي والاجتماعيّ الضاغط سيشكّل محورها الأساسيّ، بعيداً عن السياسة وشجونها، وهو ما يفسّر أصلاً الشعار الذي اختار "تيار المستقبل" إطلاقه على المناسبة، وهو "البلد مكفّي بشغلك"، والذي ينسجم بشكل كبير مع شعار حكومته الجديدة، "إلى العمل".
لا شكّ أنّ كلمة الحريري ستحمل بين طيّاتها "الثوابت السياسيّة" المعتادة، من تأكيد مواصلة دعم المحكمة الدولية وصولاً إلى كشف الحقيقة الكاملة في جريمة اغتيال والده ومحاكمة القتلة، وتجديد التمسّك باتفاق الطائف والدستور، بعيداً عن كلّ الإشاعات المغرضة، فضلاً عن ضرورة تمتين علاقات لبنان مع أشقائه العرب، واحترام القرارات الدولية. إلا أنّ الأكيد أنّ "عصب" الكلمة سيكون أبعد من الخريطة السياسية، ليرسم ملامح "انطلاقة جديدة" يريدها الحريري "اقتصادية" بالدرجة الأولى، بعنوان "الإصلاح"، بعيداً عن كل الخلافات السياسية، لأنّ إنقاذ البلاد من الانهيار يبدأ من هنا، حتى يتمكن لبنان من الاستفادة من الإنجازات التي حققها في المؤتمرات الدولية، ولأنه يعتبر أنّه بهذا النهج فقط، يكمل "المسيرة" التي كان والده قد بدأها في السابق.
انطلاقة غير واقعية؟!
لا يسعى "تيار المستقبل" إلى القول إنّ شيئاً ما تغيّر في ذكرى "14 شباط". ستكون المناسبة شبيهة بتلك التي نظّمها العام الماضي، وستقتصر الكلمات السياسية على كلمة لرئيس الحكومة، على جري العادة.
إلا أنّ التيار "الأزرق" يريد أن تكون المناسبة "خطوة أولى" في مسار "التغيير" الذي ينشده من خلال الحكومة الجديدة، تغيير يتجاوز الاصطفافات السياسيّة ليشمل النهضة الاقتصادية المطلوبة اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى. بهذا المعنى ربما، يصوّر "المستقبليّون" الأمر على أنّه "انطلاقة جديدة"، عنوانها التفاهم مع جميع الفرقاء، من دون استثناء.
وفي حين لا تبدو مثل هذه "الانطلاقة" واقعية في بلد الانقسامات العموديّة، والتي تبدو مرشحة للتفاقم في المرحلة المقبلة تحت سقف الحكومة، في ظلّ الاستحقاقات "الشائكة" المرتقبة وفي مقدّمها العلاقة مع سوريا، فإنّ الحكم النهائي يبقى على "الأفعال" التي يمكن أن تشكّل "الترجمة"، بعيداً عن "الأقوال" التي لم يعد اللبنانيون قادرين على تصديقها...