إن العداء الذي تكنّه الولايات المتحدة الأميركية للجمهورية الإسلامية الإيرانية قديم قدم الثورة الإسلامية التي ألحقت الهزيمة بنظام الشاه حليف واشنطن وحامي مصالحها في أهمّ منطقة في العالم، من حيث مخزون النفط الذي يشكّل سرّ الاهتمام والتركيز الأميركي الغربي بالمنطقة والذي استدعى زرع الكيان الصهيوني في قلبها. وقد زاد هذا العداء بسبب السياسات التي انتهجتها طهران لناحية دعم القضية الفلسطينية ومقاومتها، ودعم المقاومة في لبنان، وتشكيلها مع سورية قوّة هامّة أسهمت في منع المشروع الأميركي الصهيوني من استكمال فرض سيطرته على المنطقة، واستطراداً تصفية القضية الفلسطينية.
لذلك لم يكن مستغرباً استحضار الهجوم على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومحاولة إثارة مناخات العداء بينها وبين العرب، حيث توالت المواقف التي تتهم طهران بالتدخل في اليمن وفي البحرين، وفي الوقوف وراء ما يحصل فيهما من ثورة شعبية. تصعيد الحملة ضد إيران يأتي في هذه المرحلة العاصفة في الوطن العربي والتي لا تصبّ في مصلحة المشروع الأميركي المترنّح أصلاً نتيجة الفشل المتواصل في تحقيق أهدافه في ساحات الصراع الرئيسية، خاصّة أن الهجوم الممنهج قد جاء متزامناً مع فوز ترامب بالرئاسة الأميركية وإعلانه الانسحاب من الاتّفاق النووي والعودة إلى سياسة العقوبات والحصار ضدّ إيران. هذا الأمر يدلّ على أن الهجوم تمّ بقرار أميركي، وتنفّذه الأنظمة العربية التي تدور في فلك السياسة الأميركية وهو ما يعكس ارتباط هذه الأنظمة العربية بالولايات المتحدة، وجهوزيتها لتنفيذ إملاءاتها، وتوجهاتها حتى وإن كانت لا تخدم مصالح الدول العربية.
لكن هذا الهجوم على إيران ومحاولة اتّهامها بالتدخل في لبنان، والبحرين واليمن وسورية، وأنها تسعى إلى بسط هيمنتها على الدول العربية ليس جديداً، وإنّما يمكن القول إنه بدأ تنفيذه عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وكان من نتائجه التسبّب بحصول الحرب الإيرانية العراقية، التي كان الهدف منها استنزاف الثورة الصاعدة ولجم اندفاعتها الثورية، والعمل بشكل رئيسيّ على تدمير قوّة البلدين، ومنع ولادة أيّ دولة قوية يمكن في المستقبل أن تشكّل مصدر تهديد للعدو الصهيوني، والمشروع الاستعماري في المنطقة.
عاد تصاعد هذا الهجوم بعد أن تمكّنت إيران من لملمة جراحها، وإعادة بناء قوتها، والتركيز على النهوض الاقتصادي والعلمي، وخاصة لناحية العمل على امتلاك القدرة الذاتية لإنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، واشتدّت حدّة على خلفية دعم إيران للمقاومة في لبنان وفلسطين، وتحالفها الاستراتيجي مع الجمهورية العربية السورية، ما أدى إلى تمكين المقاومة من إلحاق الهزيمة بالعدو الصهيوني في لبنان عامي 2000 و2006، وفي قطاع غزة أعوام 2008 و2009 و2014.
وبعد أن وجدت واشنطن أنّ استخدام القوة ضد إيران، أمر محفوف بالمخاطر، ومغامرة قد تنقلب عليها، عمدت إلى استخدام سلاح الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة لإثارة العداء بوجه إيران، وحرف الصراع في المنطقة عن مساره الحقيقي، وتحويله من صراع مع المشروع الأميركي الصهيوني وحلفائه، إلى صراع بين العرب وإيران بهدف إشغال الجميع في صراعات ثانوية وإراحة أميركا، والكيان الصهيوني وتمكينهما من فرض أهدافهما الاستعمارية في المنطقة، لا سيما المشروع الشرق أوسطي الجديد.
وإذا كان الهدف من كلّ ذلك محاولة منع إيران من امتلاك القوة التكنولوجية واستطراداً القوة العسكرية المتطورة حتى لا يحدث اختلالاً في توازن القوى في الشرق الأوسط في غير مصلحة الكيان الصهيوني، فما هو الهدف من محاولة حشر إيران بما يجري في البحرين واليمن عبر اتّهامها بأنها تقف وراء الثورة الشعبية هناك؟
1 ـ استخدام ذريعة اتّهام إيران بالتدخل في البحرين واليمن لأجل تبرير التدخل العسكري للتحالف السعودي لقمع الثورة الشعبية هناك، واستطراداً منع أيّ تغيير يلبّي طموحات الشعب بالإصلاح السياسي والديمقراطي بالقوة، لأنّ مثل هذا التغيير في حال حصل تحت ضغط الثورة الشعبية سوف يشكّل مناخاً يشجّع على الثورة في دول الخليج، وامتداد عدواه إلى السعودية التي ترتبط بحدود مشتركة مع البحرين واليمن، فيما استطلاعات الرأي تؤشّر إلى أن الشعب السعودي بأغلبيته معادٍ للسياسة الأميركية الداعمة للعدوان الصهيوني في فلسطين، وهو غير راضٍ عن سياسة الارتباط بأميركا التي تمتصّ عائدات النفط السعودي الضخمة، فيما شريحة الفقراء يزداد عددها، ويسود الحرمان المناطق الشرقية، رغم غنى المملكة السعودية. بالتالي فإنّ الهدف الأول هو السيطرة على الثورة في البحرين واليمن وإجهاض أهدافها التغييرية، وبالتالي منع امتدادها إلى السعودية المهيّأة أكثر من غيرها.
يتحول التهجّم على إيران إلى مادة تستخدمها واشنطن في اتجاهات متعددة تصبّ جميعها في خدمة مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية
2 ـ محاولة إثارة الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة عبر تصوير الثورة في البحرين بأنها تقتصر على أبناء الطائفة الشيعية المدعومة من إيران، وبالتالي العمل على محاصرة هذه الثورة بالفتنة، وتأليب الشارع الخليجي ضدّها، وتوفير الغطاء الشعبي لعملية القمع الدموية التي قامت وتقوم بها القوات السعودية، فيما تُتهم إيران بالوقوف وراء ما يحصل من ثورة في اليمن بقيادة «أنصار الله». على أن الوقائع تؤكّد أن الثورة البحرينية يشترك فيها جميع شرائح المجتمع. أما في اليمن فإن التظاهرات المليونية المتكرّرة في شوارع صنعاء الداعمة لـ «أنصار الله» والقوى الوطنية في مواجهة قوى العدوان على اليمن تبرهن بشكل لا لبس فيه على أن هناك ثورة شعبية يمنية تسعى للتحرر من الهيمنة الأميركية ــ السعودية.
3 ـ تحويل الصراع انطلاقاً من البحرين واليمن إلى صراع عربي ــ إيراني، وسنّي ــ شيعي لقطع الطريق على أيّة احتجاجات شعبية قد تحصل في دول الخليج الموالية أنظمتها للولايات المتحدة، وبالتالي تجنيب هذه المنطقة الحيوية للمصالح الأميركية تداعيات زلزال الثورات العربية ضد الأنظمة الفاسدة، والمستبدة، والتابعة لأميركا، والتي يرتبط بعضها علانية بعلاقات مع العدو الصهيوني، وبعضها الآخر بالسرّ.
وبالتالي ضمان المحافظة على النظام اليمني التابع للرياض وواشنطن وكذلك الإبقاء على النظام القائم في البحرين وسياساته التي تخدم استراتيجية الولايات المتحدة مع وجود القاعدة الرئيسية لأسطولها الخامس في البحرين على شواطئ الخليج العربي، الهدف منها بالطبع حماية هذا الشريان الحيوي للملاحة الدولية، وتأمين خط إمدادات البترول ليستمرّ بالتدفّق بشكل يومي في شرايين صناعة واقتصاد الغرب.
4 ـ الإبقاء على حالة الحذر في العلاقات الخليجية الإيرانية، ومنع أيّ تقارب، أو تفاعل إيجابي حتى تحول واشنطن دون إمكانية استغناء الدول الخليجية عنها، ومنع أيّ تطوّر سياسي يعزّز استقلال دول وشعوب المنطقة.
5 ـ إعادة التصويب على إيران وافتعال التوتر معها، لأجل حرف الأنظار عن ما يجري في المنطقة من انتصارات لمحور المقاومة واستمرار الثورات التحررية في اليمن والبحرين.
فالإدارة الأميركية وجدت أن أفضل سبيل لتغيير المسار الحاصل في الوطن العربي هو إشغال العرب في صراعات وحروب إرهابية ثانوية تلهيهم عن الاهتمام في أوضاعهم، والعمل على تغيير السياسات المدمرة لأوطانهم واقتصاداتهم. من خلال هذه السياسة تريد واشنطن تغيير اتجاه التطورات لمصلحة استراتيجيتها في المنطقة والتي تقوم على احتواء الثورات، وتفجير صراعات وقلاقل في قلب معسكر الدول، والقوى المقاومة للمشروع الأميركي تارة من خلال محاولة تحويل الصراع مع المشروع الاستعماري إلى صراع عربي ــ إيراني، وتارة ثانية من خلال محاولة إثارة الفتنة السنّية ـ الشيعية، وتارة ثالثة من خلال تفجير الاضطرابات في سورية وإرباك الساحة اللبنانية وبالتالي شلّ فعالية وقدرات معسكر المقاومة والممانعة في المنطقة. الخطة الأميركية على هذا الصعيد تجسدت في ثلاثة اتجاهات:
اتجاه أول: إرباك إيران وإشغالها في مهمة التصدي للفتنة السنية ــ الشيعية، والعمل على امتصاص حالة التوتر الناتجة عن محاولة إثارة عداء العرب ضدها، ووضعها في حالة دفاع عن النفس، ومحاولة إعادة إنعاش القوى المعارضة للنظام داخل إيران، والتي كشفت وثائق «ويكليكيس» تنسيقها مع جهاز المخابرات الأميركية لتفجير الاضطرابات في طهران.
اتجاه ثانٍ: الانسحاب من الاتفاق النووي ومحاولة إعادة تشكيل جبهة دولية لمحاصرة إيران وحظر تصدير نفطها لإضعاف وارداتها الاقتصادية ومنعها من دعم قوى المقاومة وإيجاد المناخات المواتية لتغيير نظام الجمهورية الإسلامية. وهو هدف أميركي دائم ومستمر، ويتمثل في أن الإبقاء على حالة التوتر في العلاقات الإيرانية الخليجية وإثارة المخاوف والقلق لدى دول الخليج من تنامي القوة الإيرانية وخطرها عليها، يسمح لواشنطن في دفع هذه الدول إلى عقد الصفقات الضخمة لشراء السلاح الأميركي تحت حجة «مواجهة الخطر الإيراني».
وهكذا يتحوّل التهجّم على إيران إلى مادة تستخدمها واشنطن في اتجاهات متعددة تصبّ جميعها في خدمة مصالحها الاقتصادية واستراتيجيتها في المنطقة.
سبل مواجهة المخطّط الأميركي
لا شكّ أن هذا المخطط الأميركي يستدعي من قوى المقاومة والمواجهة، وجميع الحركات والقوى التقدمية التحرّك لمواجهته وإحباط أهدافه الخطيرة، وتنبيه الدول الخليجية إلى الأفخاخ التي تنصبها لها واشنطن من وراء هذا المخطط لابتزاز أموالها، وإبقائها خاضعة وتابعة لها، وتحتاج دائماً إلى حمايتها. مواجهة هذا المشروع الفتنوي إنّما تتم من خلال العمل على كشف زيف المخطط الأميركي، وفضح التدخل الفعلي الذي تمارسه أميركا في شؤون دول المنطقة، والإضاءة على أهمية التعاون والتنسيق والتفاعل بين إيران والدول العربية المعزز بروابط الدين، وعلاقات الجوار، والعمل على إيجاد صيغ للتعاون بين دول المنطقة في شتى المجالات بما يحمي استقلالها وسيادتها ويجنّبها الدخول في صراعات تريد الدول الاستعمارية إيقاعها فيها لتبقى مسيطرة ومهيمنة عليها ولتنهب ثروات النفط والغاز. من هنا فإن مصلحة العرب، وفي المقدمة الدول العربية المقابلة والمجاورة لإيران إقامة أفضل العلاقات معها على قاعدة التفاعل والتعاون والتنسيق الذي يحقق أمن المنطقة واستقلال دولها.