المشهد السياسي في المنطقة والعالم يستعجل إعادة تركيب أحجار الشطرنج السياسي، بعملية وصفت أنها محاولة لإعادة اختراق مراكز القوة في لعبة الأمم بهدف تحديد مراكز القوى، وخصوصاً بعد كسر طوق الأحادية الأميركية وظهور نواة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
في هذا الإطار، عقد مؤخراً في العاصمة البولندية وارسو مؤتمر وُصف بالمحفل العالمي، بمشاركة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إضافة إلى تمثيل أميركي وازن وقادة غربيين وعرب، جلسوا جميعاً جنباً إلى جنب وبصورة علنية إلى طاولة واحدة.
مؤتمر وارسو جاء بموجب مذكرات جلب أميركية حملت عنوان «كيفية مواجهة النفوذ الإيراني، والبحث في سبل تحقيق السلام في المنطقة».
عنوان المؤتمر يعتبر جذاباً لعرب الخليج السابحين في الفلك الأميركي، فسارعوا لتلبية طلب الجلب الأميركي، رغم معرفتهم المسبقة بمشاركة نتنياهو في المؤتمر وجلوسه إلى الطاولة ذاتها ومشاركته المأدبة ذاتها معهم.
قبل الدخول في دهاليز مؤتمر وارسو وما نتج عنه، نستعرض بلمحة سريعة سبب هذه الاندفاعة لهذا الحشد، وتخصيصه لمواجهة إيران.
إيران في ظل حكم الشاه رضا بهلوي، أي ما قبل الثورة الإسلامية فيها في العام 1979، كانت تقيم علاقات طبيعية مع العدو الإسرائيلي، وكانت توصف بأنها شرطي الخليج. حينها لم يكن أحد من عرب الخليج يجرؤ على الدعوة إلى اجتماع عنوانه كيفية مواجهة إيران.
تزامن انتصار الثورة الإسلامية في إيران مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد المذلّة في العام 1978، بين مصر في عهد الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وإسرائيل في عهد رئيس وزرائها مناحيم بيغين، بموافقة وتشجيع من دول الخليج العربي. حينها خرجت مصر السادات عن المسار العربي المدافع عن فلسطين والفلسطينيين، كما أنها أُخرجت من المواجهة مع إسرائيل.
في ذاك الوقت تقدمت سورية حافظ الأسد لقيادة محور المواجهة مع إسرائيل، مع العلم أن التنسيق والتعاون السوري الإيراني حينها لم يرق إلى مستوى التحالف، فاكتفى الرئيس الراحل بتأييد ثورة الأمام الخميني الذي اتخذ موقفاً متقدماً تمثل في قطع كل العلاقات مع إسرائيل وتحويل سفارتها في طهران إلى سفارة دولة فلسطين ورفع العلم الفلسطيني بدلاً من علم إسرائيل، في موقف انحاز فيه إلى جانب الفلسطينيين دعماً لحقهم المشروع ضد الاحتلال الإسرائيلي، رافعاً شعار تحرير القدس واعتبارها عاصمة لفلسطين العربية.
اعتقد عرب الخليج أن اتفاق كامب ديفيد المشؤوم سينسحب على باقي الدول العربية واحدة تلو الأخرى، وكان ذاك الاتفاق ستارة يختبئ خلفها الخليج العربي تمهيداً للتطبيع والاعتراف بإسرائيل وإنهاء القضية الفلسطينية.
جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بتنسيق وتآمر الكتائب والقوات اللبنانية برئاسة بشير الجميل مع إسرائيل العام 1982، تحت عنوان اقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية، ظناً أن لبنان سيكون البلد التالي المهيأ لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل بعد مصر السادات. وبالفعل ضغطت أميركا لإبرام وتوقيع اتفاق بين لبنان وإسرائيل قاده وزير الخارجية الأميركي آنذاك الكسندر هيغ والرئيس اللبناني أمين الجميل سمي اتفاق 17 أيار.
بيد أن سورية حافظ الأسد، جهدت ونجحت بإسقاط هيغ – الجميل، وتم إلغاء ذلك الاتفاق في المجلس النيابي الذي رفض اتفاقية الاستسلام مع العدو الإسرائيلي من أساسها، وسجّلت سورية حافظ الأسد واحداً من انتصاراتها في المواجهة الشرسة مع أميركا وإسرائيل. ومنذ إسقاط الاتفاق تحولت سورية حافظ الأسد إلى لاعب رئيسي في المنطقة لا يمكن تجاوزها، وخصوصاً بعد ظهور المقاومة اللبنانية ضد العدو الإسرائيلي والتي أصبحت عاملاً مهماً داعماً للتحالف الإستراتيجي السوري – الإيراني لمواجهة مخططات أميركا وإسرائيل في المنطقة.
شكلت سورية حافظ الأسد، ومعها إيران الخميني، عائقاً أساسياً في وجه الخليج العربي الطامح نحو التطبيع مع العدو الإسرائيلي وإنهاء القضية الفلسطينية بأي ثمن.
كان لا بد من محاولة لإخماد الثورة في إيران الخميني، والعمل على فسخ التنسيق الإيراني – السوري، فكانت حرب العراق التي شنها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على إيران، وبدعم لا محدود من دول الخليج العربي، وبخزائن مالية مفتوحة.
بيد أن الثورة الإيرانية صمدت ثماني سنوات في وجه الحملة الخليجية، وتعزز صمود إيران ضد المخطط الخليجي بإعلان التحالف السوري الإستراتيجي مع إيران الداعمة للقضية الفلسطينية.
صارت سورية حافظ الأسد قبلة الخليج العربي، كما أصبحت قبلة أميركا كيسنجر وريغن وكلينتون وبوش الأب والابن، وذلك في محاولة لفك شيفرة التحالف الإيراني السوري الإستراتيجي.. لكن كل المحاولات باءت بالفشل.
في العام 1991 جاءت الدعوة إلى مؤتمر مدريد تحت عنوان بحث سبل السلام في الشرق الأوسط، وعلى المقلب الآخر كانت القنوات الخلفية السرية تعمل على مسار إخراج الفلسطينيين من الصراع العربي الإسرائيلي، فكان اتفاق أوسلو المذل في العام 1993.
لم تنجح محاولات أميركا وإسرائيل والخليج العربي في فك التحالف الإستراتيجي الداعم للقضية الفلسطينية، فكانت المؤامرة الكونية على سورية بهدف إسقاطها، بدعم وتمويل الخليج العربي، في محاولة لتحجيم الدور الإيراني والاستفراد بالفلسطينيين وإنهاء قضيتهم.
لكن سورية صمدت وانتصرت على المؤامرة وإيران أضحت شريكاً في الانتصار ودورها في المنطقة تعاظم وصارت رقماً صعباً مقرراً، أما دول الخليج النفطي فخزائنهم فرغت وأموال نفطهم ذهبت لتملأ خزائن وبنوك أميركا، وقرارهم السيادي في المعادلة الإقليمية صار صفراً إما بقاؤهم على عروشهم صار رهناً مرتبطاً بمصير إسرائيل وبقائها في المنطقة.
من هنا يأتي مؤتمر وارسو مسلطاً الضوء على خطر التدخل الإيراني في شؤون المنطقة، لأنه دور داعم للقضية الفلسطينية، متحالف مع سورية معطل للتطبيع الخليجي العلني مع إسرائيل. وهذا ما أعلنه وزير خارجية البحرين بأن «إيران تلعب دوراً معطلاً للسلام في المنطقة، وأن مواجهة إيران أهم من فلسطين»! أما نائب الرئيس الأميركي مايك بنس فقال «لا سلام في المنطقة من دون مواجهة إيران».
ورغم عدم الإتيان على ذكر كيفية وسبل مواجهة إيران في مؤتمر وارسو، بيد أن الهدف الواضح من الدعوة لمؤتمر وارسو هو إنقاذ نتنياهو وإسرائيل من الغرق، وإخراج التطبيع الخليجي إلى السطح، ليبدو أن الاستسلام لإسرائيل هو السبيل الوحيد لكبح جماح إيران، وفي إفساح المجال أمام تنفيذ صفقة القرن التي تنهي القضية الفلسطينية من أساسها.
وجوه الوزراء الخليجيين الكالحة في مؤتمر وارسو، دليل واضح على فضيحة التطبيع العلني مع نتنياهو والقبول بإسرائيل كحليف مقرر في الخليج العربي.
لقد سجل التاريخ أن مؤتمر وارسو هو مؤتمر التطبيع الخليجي العلني المجاني والمذل، في يوم هرب فيه وزراء خليجيون من مواجهة أسئلة الإعلام عن التطبيع مع إسرائيل.. وهو يوم اسودت فيه الوجوه.