مع انطلاقة الحكومة، تدخل البلاد مرحلة جديدة يتهيّب الجميع مشكلاتها الضخمة، مالياً واقتصادياً، أكثر من أي هواجس أخرى سياسية أو أمنية. فالضغوط الخارجية لم تعد تجد تصريفاً لها سوى في باب العقوبات الاقتصادية. وقد أدرك الغربيون، للمرة الاولى، ربما، أن التهويل بالحرب الإسرائيلية لم يعد يجدي نفعاً، فيما لبنان أكثر المستفيدين من انحسار الموجات التكفيرية في المنطقة. وما بقي من توتر سياسي، محصور في ما يريد السياسيون استخدامه في معرض خلافاتهم على كعكة الدولة والاقتصاد.
التفاهمات التي سبقت إقرار الحكومة، وحتى نيل الثقة، لم تشتمل مطلقاً على أي ملفات سياسية. ولدى مناقشة البيان الوزاري، لم يجر نقاش جدّي في مسائل كسلاح المقاومة أو المحكمة الدولية أو العلاقات مع سوريا، إذ كان الجميع مدركاً أن هذه ليست على جدول أعمال الحكومة، ولا هي من اختصاص من يجلسون إلى طاولة مجلس الوزراء. وقد يكون من المناسب الإشارة الى أن قوة التفاهمات القائمة بين القوى كافة، تستند أساساً الى أن أياً منها لا يتحمل البقاء خارج السلطة، كما أن أياً منها ليس في وارد الاستئثار بالحكم في هذه اللحظة العصيبة. وهذا ليس تعففاً، بل لكون المسؤوليات أكبر من أن يتحمّلها فريق بمفرده. أكثر من ذلك، فإن قوة التفاهمات ناجمة عن أنها تمت بين القوى الاصلية وليس بين الوكلاء، وهو ما يفسّر ضيق هامش المناورة أمام أطراف باتوا ثانويين اليوم، ربما أبرزهم وليد جنبلاط، تليه «القوات اللبنانية».
التحدي الاقتصادي غير مسبوق. فالجميع يرى، بأمّ العين، ملامح الانهيار المالي بعد انهيار الاقتصاد والدولة. وجدول الأعمال المطروح سيكون قاسياً على الجميع، خصوصاً أن اللاعبين الأبرز في الحكومة (تيار المستقبل والتيار الوطني الحر وحزب الله) يجهرون بأنهم سينخرطون في اللعبة، فيما تجلس القوى الممسكة بالاقتصاد على الطرف المقابل من الطاولة، وأبرزها قطاع المصارف والهيئات الاقتصادية وكبار التجار (التجارة، هنا، يقصد بها تجارة الطب والدواء والنفط والغاز والاتصالات... الخ)، وأيدي هؤلاء على قلوبهم، لا لأن هناك ملامح ثورة شعبية تريد استرداد حقوق الدولة والناس، بل لأن الانهيار سيطيحهم وسيتسبّب لهم بأضرار وكوارث أكبر ممّا يتخيّل الكثيرون، مهما نجحوا في تهريب أموالهم الخاصة من لبنان.
يقف عجز الموازنة العامة وحساب الدين العام وخدمته على رأس التحديات. وهو ما فرض، للمرة الاولى من سنوات طويلة، أن يتحدث الجميع حول الحلول الممكنة الآن أو على المدى المتوسط والبعيد. وبحسب ما علمت «الأخبار»، فإن البحث بين الحكومة والمصرف المركزي وجمعية المصارف تناول مجموعة من الافكار، أبرزها:
- اتفاق ثلاثي على سلة إجراءات تستند الى تجميع سلة نقدية في مصرف لبنان بفائدة صفر في المئة تستخدم لمواجهة أعباء الدين والسندات الخارجية.
- اتفاق ثلاثي بخطوات متقابلة، تبدأها المصارف بترك وديعة لدى المصرف المركزي، تشمل إقراضه مبلغاً كبيراً بفائدة صفر، مقابل استغناء «المركزي» عن قسم من أرباحه والتوقف عن ضخها في خزائن المصارف من خلال الهندسات (اقرأ البهلوانيات) المالية، على أن يكون الأمر رهن سلة إصلاحات تقوم بها الدولة، وتقضي بآلية لتقنين التوظيف في القطاع العام، وإطلاق أوسع شراكة بين القطاعين العام والخاص في إدارة المرافق الكبيرة مثل الكهرباء والمياه والاتصالات، والشروع في برنامج جباية ثابت للضرائب والرسوم المالية والجمركية التي يعتقد مصرفيون بارزون بأنها ستدخل الى خزينة الدولة نحو مليار دولار سنوياً على الاقل.
- فكرة غير مقبولة، تقوم على شطب قسم من الدين العام، على قاعدة إعادة النظر في سلة الفوائد على ودائع طويلة الأجل، وهي فكرة يبدو أن فريق عمل مسؤولاً بارزاً قد أعدّها ضمن برنامج متكامل، لكنّ كثيرين من أصحاب الاختصاص يعتقدون بأن الظرف العام في البلاد والعالم لن يسمح بها.
ومع أن الحريري رفع السقف في ردّه على مناقشات النواب في جلسات الثقة، إلا أنه يعرف أن التفاهمات قادمة لا محالة، وأن لا مجال لاقتصار الإجراءات على خطوات حكومية، وأن تقليص العجز لن يكفي وحده تقليص الدين ولا خدمته، وأن المصارف لن تبادر من تلقاء نفسها الى خطوة كهذه ما لم تضطر اليها، وأنه لن يكون لأحد، غير الدولة، القدرة على مصارحة القطاع المصرفي بأن عليه العيش، لخمس سنوات على الاقل، بأرباح توازي نصف ما يحققه اليوم. أما التهويل بهروب الرساميل والودائع، فإن العارفين بخفايا الأمور يدركون جيداً صعوبة خروج ودائع كبيرة من لبنان اليوم، لأن التطورات في المنطقة والوضع الاقتصادي في العالم ومراقبة الاموال من قبل حكومات عربية وغربية، ستصعّب على أصحاب هذه الودائع العثور على جنّة لأموالهم أفضل من هذا البلد.
على أن اللافت كان في الدخول القوي لحزب الله مجدداً في الملف الاقتصادي والمالي والمعيشي. فبعد أسابيع من الهدوء والتسريبات عن عدم نية الحزب الدخول في معركة قد تتسبب له في متاعب سياسية وغير سياسية، عادت قيادته الى اتخاذ قرار المضي في هذه المعركة. ويبدو أن الفرق الخاصة التي تعمل مع لجنة مكافحة الفساد التي شكّلها الحزب ـــ ويرأسها النائب حسن فضل الله ـــ تعمل بصورة مكثفة، لكن وفق شروط أُبلغت الى من يهمه الامر، وفحواها:
- ان الحزب لن يدخل في معركة استعراضية. ولذلك على الجمهور ألا يتوقع منه تصريحات وبيانات وأخباراً كالتي يتداولها السياسيون في حروبهم الصغيرة، بل سيعمل على إنشاء ملف لكل قضية، وسيتم التعامل مع كل ملف وفق خصوصيته. فما يحتاج الى تشريعات جديدة سيصار الى بحثه مع الكتل النيابية من دون استثناء للتعاون في المجلس النيابي، وما يحتاج الى قرارات حكومية، سيصار الى إثارته مع الرؤساء الثلاثة ومع المجموعات الوزارية، وما يحتاج الى الذهاب فوراً الى القضاء سيتم التقدم به أمام النيابات العامة المعنية، ويطلب الى القضاء التعامل مع الوقائع. وسيكون الحزب في موقع مراقبة القضاء في حال خضع لأي نوع من الضغوط السياسية أو غير السياسية.
وفي ما خصّ «الكيدية السياسية» التي تستخدم ضد الحزب بالقول إنه لن يكون قادراً على فتح ملفات قد تصيب حلفاءه، فإن الجهات المعنية في البلاد صارت في أجواء أن الحزب ليس في وارد الدفاع عن أي متورط في الفساد، وأن على الآخرين ممن يدّعون الحرص على مواجهة الفساد العمل على إعداد ملفات موثقة وعدم الاكتفاء ببيانات تشهير، وأن يذهبوا الى القضاء، وعندها ليختبر هؤلاء الحزب إن كان سيدافع عن أي متورط. ويعتقد الحزب أن لدى الاجهزة الامنية في الدولة، ولا سيما فروع التحقيق في قوى الامن الداخلي، قدرة على لعب دور كبير في متابعة هذا الجانب، والتشديد على منع استخدام هذه المؤسسة للتصويب على فاسد دون آخر، وأنه متى أظهرت قوى الأمن حرصاً على العمل من دون محاباة، فإن الحزب سيتعاون معها، كما هي الحال بالنسبة إلى بقية الأجهزة الامنية والقضائية. ويأتي هذا الحديث في ضوء برنامج عمل تقوم به قوى الامن ـــ ولا يزال في بدايته ـــ لملاحقة مشتبه في تورطهم بالفساد داخل المؤسسة نفسها.
وطالما أن القوى الشعبية أو السياسية الراغبة في التغيير غير قادرة على وضع برنامج عمل يقلب الطاولة على رأس الجميع، فإن الناس، ونحن منهم، سينتظرون ويراقبون من دون أوهام كبيرة. وكل عناصر التشاؤم، تجعل أي حدث إيجابي أشبه معجزة في بلد الطائفيين المارقين!
بينما يُتَّهم التيار الوطني الحر بأنه «نسي» ما أعده تحت عنوان الإبراء المستحيل، لجهة المطالبة بعملية تدقيق لمعرفة كيفية إنفاق حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مبلغ الـ11 مليار دولار الذي تجاوزت به القاعدة الإثني عشرية، كان لافتاً أن يعود حزب الله إلى إثارة موضوع حسابات الدولة بصورة عامة في مداخلة النائب حسن فضل الله في مجلس النواب الأربعاء الماضي. تلك المداخلة جعلت كثيرين يفسرون الأمر على أنه قرار من حزب الله بالدخول في مواجهة مع الرئيس سعد الحريري وفريقه، باعتبار أن الرئيس فؤاد السنيورة هو أبرز من تولى هذه الملفات، حتى أن معارضين للحزب ذهبوا إلى اعتبار الطلب محاولة للاقتصاص السياسي من الرئيس السنيورة وفريقه.
لكن الخطورة لا تقف عند التفسيرات السياسية لموقف الحزب، بل في كون جميع من شارك الرئيس السنيورة في الحكم خلال السنوات الطويلة، لا يريد لهذا الملف أن يأخذ مجراه إلى حيث تظهر النتائج. والآن، ثمة خشية لدى أوساط بارزة من أن تنتصر وجهة نظر متداولة في وزارة المالية، تقول بتصفير هذه الحسابات وإقفالها إلى غير رجعة، وذلك عن طريق إجراء حسابيّ يتم بالتعاون مع ديوان المحاسبة.
وحذرت أوساط معنية بالملف من أن حصول عملية التصديق من دون محاسبة سيفتح الباب أمام تكرار التلاعب بحسابات الدولة، علماً أن معرفة أين أنفقت مليارات الدولارات ليس ترفاً في ظل الوضع الذي يعيشه لبنان. ويبدو أن الأنظار تتجه صوب موقف الرئيس نبيه بري والوزير علي حسن خليل من هذا الملف.
وفي شرحها للأمر، تقول مصادر في وزارة المالية إن الوحدات المكلفة بإعادة تكوين الحسابات المالية النهائية للدولة، أنجزت أعمالها ضمن المهل المحددة، ووضعت تقارير بشأن الفترة الممتدة بين عام 1993 و2017، متضمنة ميزان الدخول لسنة 1993 وكل السنوات التي تلت. وفتح ذلك باب السؤال عن الخطوة التالية للوزارة، إذ إن المحاسبة تعني عدم الاكتفاء بهذه الخطوة، بعد أن كشفت عملية التدقيق كما تقول مصادر وزارة المالية، عن حسابات «ضائعة» تتضمن «عشرات ملايين الدولارات قد تكون أُهدِرَت أو سُرقت».
وفي هذا الإطار سيقوم وزير المال علي حسن خليل بإرسال الحسابات إلى ديوان المحاسبة، على أن يقرر الديوان في ما بعد الخطوات اللاحقة. ونفت مصادر مطلعة ما يحكى عن الاستعانة باستشاريين للتدقيق مجدداً في محاولة لتمييع الموضوع أو حلّه على طريقة التسويات السياسية التي تحصل عادة في أي ملف، مؤكدة أن «إرسال الحسابات إلى ديوان المحاسبة يمكن أن يحصل اليوم أو غداً، وأن التأخير مرتبط بإجراءات شكلية ليسَ إلا». أما في ما يتعلق بقطع الحساب فإن «وزير المال علي حسن خليل سيرسله إلى مجلس الوزراء».
من جهة أخرى، علمت «الأخبار» أن رئيس مجلس النواب نبيه برّي، لن يوافق على تمرير مشروع قرض الـ400 مليون دولار المقدم من البنك الدولي تحت عنوان مشروع البنك الدولي لتمويل الوظائف الوطنية. وهو قد أكد أمام زواره «أن المشروع متى وصل إلى الهيئة العامة لمجلس النواب فسوف تتمّ مناقشته حرف حرف»، ملمحاً إلى ميله «رفض المشروع من أساسه»، لا سيما بعد الكشف عن أن أمواله «ستصرف على أمور غير مبررة».