في عظته أثناء سيامتي الكهنوتيّة، توجّه إليَّ المُثلّث الرحمة المطران فرنسيس البيسري، بالقول: "عزيزي طوني، إنَّ المسيح يسوع يتحدّاك! يقول لك بفمِ بولس الرّسول، إنَّ المتزوّج يهتمّ بأمور العالم وكيف يرضي امرأته، أمّا غيرُ المتزوّج فيهتمّ بأمور الربّ، كيف يُرضي الربّ(1قور7: 32-33). كتب بولس هذا الكلام موضحاً أنّه رأيه الخاصّ في هذا الشأن، وبالتالي لا إلهامَ بِه من الربّ(1قور7: 12 و25)، اعتباراً منه بأن مجيء الربّ الثاني قريب، وأن على المؤمنين الإنشغال بالإستعداد لمُلاقاته في كامل القداسة، وعدم التّعلّق بأمور الدنيا والإنشغال بها.
ومَن يَعرف المطران الرّاحل، يُدرِك جيّداً بأنَّه لَم يَكُن يُمَيِّز بين كاهنٍ وكاهن، وأن كلامه لي لَم يكُن من باب التعصّبُ الذي يُمَيِّلُه إلى حالة البتوليّة أو الزّواج، ولا من باب الإنتقاص من كرامة الكهنوت المتزوّج في الكنيسة، بل من باب التحريض على العمل الدؤوب في كرم الربّ، المُحتاج إلى فَعَلَة أُمناء. وثقتي بنواياه المُستقيمة تجاه الكهنة المتزوّجين، أكّدته لي محبّته التي خَصّني بها، فكان كلّما كتبت مقالاُ أو نَشرتُ كتاباً، يُهاتفني قائلاً: "عزيزي طوني، أنا بهنّي حالي فيك.. .ما قلتلّك"؟...، وفي قَوله لي "ما قلتلّك"، كان يؤكّد لي مرّةً تِلوَ الأُخرى بأنه كان يرى فيَّ ما لَم أَكن أره في نفسي، ويتوسَّمُ فيَّ خيراً لَم أكن على درايةٍ بِه.
وأنقل ما أنقل عن المطران فرنسيس، لأخاطب الذين يُرفّعون حالة البتولية على حالة الزّواج، لا حُبّاً بالتّبَتُّل وإنّما رِغبَةً في مقام وسُلطة لها مغرياتها الماديّة والدنيويّة، لأقول لهم ما قلته في عظتي الأولى: "إنَّ الله بحسب إنجيلي، لا يديننا على بتوليّة أو زواج، فيُعلي المقام ويُدنيه، بل على خدمةٍ نقوم بها تجاه الصّغار أم لا". وهو ما يبدو جليّاً في إنجيل الدّينونة، حيث يدعو المَلِكُ الدَّيّان إليه كلّ الذين استماتوا حُبّاً بإخوتهم الصّغار، قائلاً: "تَعَالَوا، يَا مُبَارَكي أَبي، رِثُوا المَلَكُوتَ المُعَدَّ لَكُم مُنْذُ إِنْشَاءِ العَالَم، لأنّي جُعتُ... وعَطشتُ... وكنتُ غريباً... وعُرياناً... ومريضاً... ومحبوساً... فخدمتموني"(متى25: 34). نعم، لم يَقُل المَلِك الديّان، تعالوا إليَّ ورِثوا الملكوت لأنكم كنتم مُتبتّلين أو متزوّجين، بل لأنّكم كُنتُم خُدّاماً لي صالحين في إخوتكم. إذاً، لا المُتَبتِّل يربح ملكوت السماء لأنّه مُتبَتِّل، ولا المتزوِّج لأنه مُتزوّج، هذه تفاصيل لا أعتقد بأن لها أولوية في فكر الله، بل لكونهما خُدّاماً أُمناء لإنجيل الخلاص في كامل المحبّة.
ومن هذا المنطلق، فإنّ الحديث عن كهنوت درجة أولى وكهنوت درجة ثانية. عن كهنوتٍ شريف وكهنوت أقلّ شرفاً. عن كرامةٍ كهنوتية أرقى وعن كرامة كهنوتية أدنى، هو عُنصرية يمقتها الربّ، وإساءة جسيمةٌ للكهنوت، لأننا جميعنا نخدم بالقدرة عينها التي أعطيت لنا من الله الآب في المسيح يسوع وبقوّة الروح القدس، وذلك بحسب الموهبة التي وُهِبت لكلّ شخص، بمقدار عطية المسيح(أف4: 7). إذاً هناك ، كهنوتٌ واحدٌ وكاهنٌ واحد، وكرامةٌ واحدة، وشرف كهنوتيّ واحد، وسِرٌّ واحد يُمنَحُ لكهنة العهد الجديد مجّاناً بواسطة الكنيسة التي هي خادمة المسيح يسوع الكاهن الأعظم، البارحة واليوم وإلى نهاية العالم.
فإلى كهنة العهد الجديد، يكفينا شَرَفاً ورِفعَةً أنّنا كهنة خُدّام ووكلاء أسرار الله (1كو4: 1). هذا هو شرفنا، ولا شيء آخر يجدر به أن يتحكّم بنا وبنظرتنا إلى الكهنوت وبالخدمة الكهنوتية.
هذا ما أعتقد بِه، إضافةً إلى أنّ البتوليّة والزواج، طريقان للخدمة الكهنوتية، يتقاطعان ويتكاملان فيما بينهما بهدف إعلان بُشرى الخلاص بالمسيح يسوع.