قدّمت قوى السلطة، من خلال البيان الوزاري، التزاماً بالتصحيح المالي بمعدل «لا يقلّ عن 1% سنوياً من إجمالي الناتج المحلي»، وتعهدت بـ«زيادة الإيرادات وتقليص النفقات». ما تقوله هذه القوى أنها ستُعيد هيكلة القطاع العام مقابل رفض إعادة هيكلة الدَّين العام، رغم أن خدمة الدَّين ستتضاعف خلال خمس سنوات من دون احتساب الاستدانة عبر «سيدر» وانعكاساتها على الدَّين العام بمساره الحالي، فيما كلفة القطاع العام لن تزيد بأكثر من 20% خلال الفترة نفسها. هذه هي تعهدات الحكومة للتصحيح المالي الذي يكاد يكون بمثابة «كذبة»
تعكف وزارة المال على إجراء تعديلات على مشروع موازنة 2019 تنسجم مع التزامات الحكومة في البيان الوزاري. مصادر مطلعة تقول إن تطبيق بنود البيان الوزاري، يتطلب خفضاً في قيمة اعتمادات الموازنة بأكثر من مليار دولار، وإن هذا الأمر لا يمكن أن يحصل إلا من خلال «مدّ اليد» على اعتمادات موظفي القطاع العام انسجاماً مع توصيات المجلس الاقتصادي الاجتماعي ومع ما التزمته الحكومة في البيان الوزاري لجهة القيام «بتصحيح مالي بدءاً بموازنة 2019، بما لا يقلّ عن 1% سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي، على مدى خمس سنوات، من خلال زيادة الإيرادات وتقليص النفقات، بدءاً من خفض العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان، وصولاً إلى إلغائه كلياً».
يوم تعهد لبنان بالتزام هذا الخفض، كان عجز الخزينة نسبة إلى الناتج المحلي يبلغ 7%. أما في 2018، فقد ارتفعت هذه النسبة إلى 10.5% بسبب استخدام قوى السلطة للخزينة في تمويل الإنفاق الانتخابي من خلال تنفيذ مشاريع إنشائية ذات طابع خدماتي لا تقع ضمن الأولويات، أو التوظيف العشوائي في القطاع العام، أو التحويلات إلى البلديات وسواها. وهذه المشكلة ستزداد تعقيداً على مدى السنوات الخمس المقبلة، إذ يتوقع أن تقفز نسبة العجز إلى الناتج المحلي إلى 17.5% في نهاية 2023. وبالتالي إن التزام تعهدات لبنان أمام «الدول المانحة»، التي تكرّرت في البيان الوزاري، يتطلب العودة إلى مستوى العجز السابق أولاً، أي الـ7%، أي يجب على لبنان أن يلتزم خفضاً تبلغ نسبته الإجمالية 8.5% على مدى السنوات الخمس المقبلة، أي بمعدل 1.7% سنوياً بدلاً من 1% سنوياً. هذا التطوّر يتطلب خفضاً للعجز بقيمة مليار دولار في 2019، وبقيمة 1.07 مليار دولار في 2020، وبقيمة 1.1 مليار دولار في 2021، وبقيمة 1.2 مليار دولار في 2022، وبقيمة 1.270 مليار دولار في 2023.
هذا السيناريو مبنيّ على أساس تقديرات شبه رسمية تتطرق إلى قدرة لبنان على تحقيق نمو حقيقي بمعدل 2% سنوياً على مدى السنوات الخمس المقبلة، وأن يتمكّن مصرف لبنان من الحفاظ على معدّل تضخّم شبه ثابت بنحو 3% سنوياً. ففي هذه الحالة، سترتفع الإيرادات الحكومية بنسبة 30% من 17500 مليار ليرة (11.5 مليار دولار) في 2018، إلى 22600 مليار ليرة (15 مليار دولار) في 2023. أما النفقات، فستزداد بنسبة 60% من 26300 مليار ليرة (17.3 مليار دولار)، إلى 41500 مليار ليرة (27.5 مليار دولار). واللافت أن خدمة الدَّين العام، بحسب التقديرات، سترتفع من 8200 مليار ليرة (5.5 مليارات دولار) في 2018 إلى 16400 مليار ليرة (10.8 مليارات دولار) في 2023. أما أصل الدَّين (الدَّين الحكومي المسجّل في قيود وزارة المال الذي لا يدخل ضمن احتسابه الديون المترتبة على مصرف لبنان)، فسيرتفع من 84 مليار دولار إلى 127مليار دولار.
تضاعف خدمة الدَّين العام يشكّل العنوان الأبرز في هذه الأرقام. خدمة الدَّين هي المصدر الرئيسي لأرباح المصارف التي باتت تزيد على 2.8 مليار دولار سنوياً. وخدمة الدَّين ستنمو بمعدل 20% سنوياً، وستتضاعف خلال خمس سنوات لتستنزف نحو 72% من الإيرادات في 2023. وفي المقابل، إن كلفة الرواتب والأجور ومتتماتها، لن تزيد بأكثر من 20% خلال خمس سنوات، بمعدل 4% سنوياً. كذلك فإنه في نهاية 2023 ستشكّل خدمة الدَّين 86.7% من مجمل العجز، فيما ستشكّل كلفة القطاع العام 67.3% من مجمل العجز.
عملياً، يقف لبنان أمام المشهد الآتي: عملية الترويج التي تمارسها قوى السلطة تروّج للاقتراض عبر «سيدر» بأنه حلّ سحري لا يمكن أن يصبح حقيقة من دون استقرار مالي ونقدي يجب توفيره عبر زيادة الإيرادات وخفض الإنفاق، كما ورد في البيان الوزاري للحكومة. فهل تكون زيادة الإيرادات عبر الضرائب، وأي نوع من الضرائب؟ وهل يكون خفض الإنفاق عبر تقشّف يعكس جديّة الحكومة في التعامل مع أكبر المزاريب، أي خدمة الدَّين العام؟
في الواقع، إن التزامات الحكومة في البيان الوزاري لتحقيق معادلة خفض العجز، جاءت مرتكزة على مسارين: مؤتمر «سيدر»، وإصلاحات اقترحها ممثلو الأحزاب تحت قبّة المجلس الاقتصادي الاجتماعي. الحكومة التزمت توصيات المجلس ما عدا ذلك البند الذي يشير إلى «خفض خدمة الدَّين العام بنسبة 10% على الأقل من مجموع خدمة الدَّين العام ضمن آليات يوافق عليها بين الأطراف المعنية، ولا سيما مصرف لبنان والمصارف والحكومية». لا بل أدرجت في البيان كلمة خفض الدَّين نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي «ما يترك مجالاً واسعاً للتأويل والتفسير بأن الحكومة لن تمدّ يدها على الدَّين العام ولن تخفض فوائده، بل ستعمل على زيادة النمو الاقتصادي ليكبر بحجم ووتيرة أكبر من سرعة نمو الدَّين» بحسب الوزير السابق شربل نحاس.
يجب أن يخفض لبنان عجزه بقيمة مليار دولار لتغطية التزاماته تجاه الدول المانحة
ليس هناك تبرير واضح لإسقاط فقرة خفض خدمة الدَّين العام من البيان الوزاري، وهذا الأمر ينسحب على رئيس المجلس شارل عربيد الذي أبلغ «الأخبار» أن لا جواب لديه على هذا الأمر. والمفارقة أن قوى السلطة التي اجتمعت في المجلس الاقتصادي والاجتماعي واتفقت على ورقة واحدة، هي نفسها القوى التي تتشكّل الحكومة منها (باستثناء الكتائب اللبنانية) والتي قرّرت أن تلغي من حساباتها فقرة خفض الدَّين العام. فمنذ بضعة أشهر، دعا المجلس ممثلي الأحزاب إلى اجتماع لمناقشة الوضع الاقتصادي. حضر الاجتماع عن تيار المستقبل الوزيرة ريا الحسن، وعن القوات اللبنانية روي بدارو، وعن الحزب التقدمي الاشتراكي محمد بصبوص، وعن حزب الله عبد الحليم فضل الله، وعن التيار الوطني الحر شربل قرداحي، وعن حزب الكتائب جان طويلة، وعن حركة أمل غازي وزني. هؤلاء اتفقوا على 6 بنود تحت عنوان «خفض النفقات العامة»، أبرزها خفض العجز السنوي لمؤسسة كهرباء لبنان، وصولاً إلى إلغائه كلياً خلال ثلاث سنوات، وخفض خدمة الدَّين العام بنسبة 10% على الأقل، وخفض النفقات الاستهلاكية في الموازنة العامة بما لا يقلّ عن 20%، وخفض الإنفاق على المساهمات للهيئات التي لا تتوخى الربح بما لا يقلّ عن 30%. واتفقوا أيضاً على أن يخصّص عنوان كامل في الورقة عن «إصلاح أنظمة التقاعد والتقديمات وتنظيم الإدارة العامة» كتسوية بين المطالبين بمعالجة تبدأ بالدَّين العام، وبين المطالبين بمعالجة تبدأ بتضخّم القطاع العام على الخزينة.
هكذا يبدو واضحاً أن قوى السلطة اتخذت قرارها مسبقاً بعدم المسّ بالدَّين العام، سواء عبر إعادة الهيكلة، أو عبر فرض ضرائب جديدة على المتاجرين به. وهذا السلوك ينسجم مع ما قاله رئيس الحكومة سعد الحريري، قبل أيام، لمجلس إدارة جمعية المصارف. فهو وعدهم بألّا تكون هناك زيادات ضريبية جديدة، أي أنه لن تكون هناك زيادات ضريبية تصاعدية، ولا ضريبة تطاول توظيفات المصارف في المزراب الأكبر في الخزينة، وهو الدَّين العام.
الدَّين العام vs القطاع العام
بحسب الإحصاءات الرسمية، بلغت خدمة الدَّين العام في نهاية 2018 ما نسبته 47% من الإيرادات و31.4% من النفقات، وسترتفع في 2023 إلى 72% من الإيرادات و39.5% من النفقات. في المقابل، إن كلفة الأجور والرواتب ومتتمماتها في القطاع العام بلغت 61% من الإيرادات و40% من النفقات، وستنخفض في 2023 إلى 56% من الإيرادات و31% من النفقات. هذا يعني أن مسار كلفة القطاع العام تنازلي، فيما مسار كلفة الدَّين العام تصاعدي. لكن قوى السلطة قرّرت أن تركّز على القطاع العام بوصفه الحلقة الأضعف من خلال سلّة عناوين وردت في ورقة الأحزاب التي أقرّت في المجلس الاقتصادي الاجتماعي والتي ذكرت «المساواة بين المستفيدين من الصناديق والمؤسسات في القطاع العام بهدف تخفيف العبء على الخزينة، وتحديث الإدارة العامة واحتواء الإنفاق، وإعادة هيكلة القطاع العام...».