بمجرد الاطلالة البسيطة على المشهد الإقليمي، يتضّح أن المنطقة دخلت في مرحلة ضياع في إطار أزمات مفتوحة تترجم الغليان الحاصل. فلا معالجة ولا مواجهة فاعلة لتلك الازمات، لا بالمفرق، ولا بالجملة، للحدّ من خسائرها المقبلة، في ظل عجز العواصم عن حسم التموضعات السياسية: إشتباك اعلامي وسياسي بين مصر وتركيا، سخونة بين المغرب والسعودية، اتهامات بين إيران ودول خليجية ترجمته وقائع مؤتمر وارسو، تصعيد سوري-تركي بلغ حدّه الاقصى في كلام الرئيس السوري بشار الأسد، خلافات قطرية-إماراتية وسعودية، غليان في السودان يدخل البلد تدريجياً في دورة العنف، سخط في الجزائر تزداد حدّته مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسيّة، اعتراضات في تونس، وغليان فتحاوي-حمساوي لامس المحرّمات الفلسطينية، ووصل الى حد غير مسبوق.
كل ذلك يجري على وقع محاولة البيت الأبيض الأميركي فرض "صفقة القرن"، لكن الاسرائيليين انفسهم لا يجمعون على اهميّة تلك الصفقة، التي عرّتها صحف عبرية، وهاجمت عرّابيها الأميركيين، فجزمت صحيفة "يديعوت احرونوت" أن الصفقة لن تُنفذ. وسألت:
أتذكرون الخطة الكبرى للرئيس الأميركي دونالد ترامب لالغاء الاتفاقات التجاريّة مع كندا والاتّحاد الاوروبي؟ تبقى منها بضع تعديلات صغيرة في صيغة الاتفاقات القائمة والتي كانت ستتم في كل الاحوال. أتذكرون الاعلان عن خروج الولايات المتحدة من سوريا؟ هي لن تخرج، حاليا. والسور على الحدود مع المكسيك؟ حتى ثمنه لن يبني. ترامب بالكاد ينفّذ خمسة في المئة مما وعد به.
مصير مشابه ينتظر ايضا "صفقة القرن" لترامب. فالخطّة كان يفترض أن تعرض منذ العام الماضي ولكنها تأجّلت المرّة تلو الاخرى، تارة بحجة أن "نحن لا نزال نعمل عليها" وتارة ان "هذا ليس الوقت المناسب". كل ذلك يعني ان الاسرائيليين لا يؤيّدون مضمون "صفقة القرن".
يُضاف الى مشهد التعقيدات، شد الحبال الأميركي-الروسي بشأن سوريا، والتي تبدو فيه ايران جزءا اساسيا من اللعبة. فلا يوجد خلاف لا تكتيكي ولا استراتيجي بين الإيرانيين والروس، كما يُشاع.
ولا مجال للحديث ابدا عن رسائل إيرانية الى موسكو، جراء استقبال طهران للرئيس السوري. رغم تزامن الخطوة مع الزيارة المرتقبة لرئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو الى روسيا. فالروس يرتبطون بحلف استراتيجي مع الإيرانيين، لأن استفراد الغرب لأي منهم، سيعني كسر احدهم، وتحديدا في سوريا، حيث تتوجه الانظار الى الشرق، بخصوص محور التنف الحدودي.
واذا كانت طهران تقصّدت تغييب وزير خارجيتها محمد جواد ظريف عن الاجتماع، ما ادى الى تنفيذ الحد الأقصى من اعتراضه بتقديم استقالته، فإن نجوميّة مسؤول الأمن القومي علي شمخاني تتصاعد، في مشهد يشير الى التخلي الايراني عن الخطاب الهادئ والممارسة الدبلوماسيّة التي جسّدها ظريف، لصالح اللغة العسكريّة، والشدّة مقابل تهديدات المسؤول الأميركي جون بولتون، والممارسات الغربيّة تجاه الإيرانيين.
جاءت زيارة الأسد الى ايران لتكمل الخطوات السياسية والعسكرية والاقتصادية التعاونية بين البلدين، وتخالف التوقعات بشأن انحياز الأسد للروس، او استعداده لفتح علاقات مع دول خليجية، على حساب علاقته بالايرانيين.
خطوة الرئيس السوري حاسمة بإتجاه تحديد الخيارات، فلا تردّد اتجاه التموضع الى جانب ايران، ولا تركها في عز فترة الضغوط الدولية عليها، بعد مؤتمر وارسو، والحصار المالي، والعقوبات، والشحن السياسي الأميركي والعربي. خصوصا ان العرب التزموا تنفيذ الطلبات الأميركية، وجمدوا خطوات اعادة فتح السفارات في دمشق التي كانت بادرت اليها اولا"، الامارات العربية المتحدة.
انها التموضعات الإقليمية. أين تركيا؟ ستنحاز للايرانيين، ضد خصومها العرب، خصوصا ان ازماتها مفتوحة مع السعودية ومصر. لكن أنقره لن تساير طهران ولا موسكو فيما يتعلق بشمال سوريا. ما يعني ان الطريق الوحيد لوحدات حماية الشعب الكردي التي تنقذهم من هلاك مرتقب، هي طريق الشام، وصولا الى قصر المهاجرين. هناك يمكن لهم عقد صفقة مع دمشق، تضمن حماية وجودهم، بعدما باعهم الاميركيون، وصمم الأتراك على مواجهتهم حتى النفس الكردي الأخير.
حتى الساعة، لا توحي التطورات بوجود قرارات بقيام حروب اقليميّة مباشرة. ستبقى المجموعات المتطرفة المسلحة تنظّم الهجمات بالوكالة عن عواصم لا تحبّذ، ولا تقدر على الدخول في حروب مباشرة.