انتهت القمة الأميركية الكورية الشمالية الثانية بين الرئيسين دونالد ترامب وكيم جونغ اون إلى الفشل في التوصّل إلى اتفاق لحلّ الصراع بين البلدين المستمرّ منذ انتهاء الحرب الكورية ونجاح كوريا الديمقراطية في الجزء الشمالي من كوريا، بقيادة القائد الثوري كيم إيل سونغ، في التحرّر من الاحتلال الأميركي، وبناء تجربة اشتراكية تنطلق من الاعتماد على الذات وتحقيق التقدّم والازدهار وامتلاك القدرات التسليحية الصاروخية وبرنامج نووي مكّنها من امتلاك الأسلحة النووية، وبالتالي ردع العدوانية الأميركية التي سعت إلى تقويض استقلال كوريا وإخضاعها ومنعها من بناء نموذج دولة مستقلة سياسياً واقتصادياً…
لقد حاولت إدارة ترامب الاستمرار في خيارات التهديد باستخدام القوة ضدّ كوريا الشمالية، إلى جانب مواصلة سياسة الحصار الاقتصادي والعقوبات، بهدف إخضاع القيادة الكورية للشروط الأميركية الهادفة إلى نزع الأسلحة الكورية النووية والصاروخية، إلا أنّ بيونغ يانغ واجهت هذه التهديدات والشروط الأميركية بموقف صلب والاستعداد للمواجهة وتطوير مديات صواريخها القادرة على حمل رؤوس نووية لتصل إلى الأراضي الأميركية… فاضطر ترامب إلى التراجع وابتلاع تهديداته وإعلان موافقته على الاجتماع مع الرئيس كيم جونغ حفيد كيم أيل سونغ الذي بادر إلى اقتراح عقد قمة مع ترامب، للبحث في سبل تسوية الصراع، وأبدى الاستعداد لوقف التجارب النووية والصاروخية والتوصّل إلى اتفاق ينهي الحرب المستمرّة ويضع حداً للعقوبات المفروضة على بلاده… وسارع ترامب إلى تلقف هذه الدعوة للقاء مع كيم بعدما بات يواجه مأزق عدم القدرة على تنفيذ تهديدات بضرب بيونغ يانغ بما أسماه «النيران والغضب»…
لكن كان واضحاً أنّ كيم جونغ لم يذهب إلى لقاء ترامب من موقع الضعف أو الخنوع للتهديد الأميركي والاستعداد للتسليم بالشروط الأميركية، بل إنه أراد من هذا اللقاء امتصاص الضغوط الدولية وخلق مناخات وأجواء إيجابية تساعد بلاده على تخفيف الحصار وتفادي المزيد من العقوبات، وإحداث المزيد من الاختراقات في العلاقات مع الشطر الجنوبي من كوريا على طريق إنهاء حالة الانقسام وتوحيد كوريا، بدأت خطواتها الأولى بلقاءات بين رئيسي الكوريتين على الحدود المشتركة، على عكس ترامب وفريقه في البيت الأبيض الذي اعتقد أنه سيتمكّن من مقايضة كيم بإنهاء العقوبات مقابل نزع سلاحها النووي والصاروخي…
وإذا كان اللقاء الأول في سنغافورة أسهم في إذابة الجليد وخلق أجواء تفاؤل استفادت منها بيونغ يانغ، فإنّ اللقاء الثاني في فيتنام، الذي عُقد بالأمس، تمخّض عن سقوط وهم واشنطن على إمكانية تحقيق ما تريد من شروط مقابل إنهاء العقوبات المفروضة على بيونغ يانغ، وأصيب ترامب بخيبة أمل كبيرة… وتبيّن له بأنّ كيم جونغ يتقن فنّ التفاوض والدبلوماسية ويعرف كيف يناور ويجرّ خصمه إلى ملعب التفاوض للحصول على ما يريد من دون أن يكون لديه أيّ وهم بأنه يمكن أن يأمن جانب الإمبريالية الأميركية ويتخلى عن أسلحة قوّته التي تشكل ضمانته للحفاظ على استقلال بلاده وردع العدوانية الأميركية التي لا تفهم إلا لغة القوة…
انه الدرس الكوري الذي يحسن إدارة الصراع مع الإمبراطورية الأميركية، لناحية الذهاب إلى أبعد مدى في الاستعداد للمواجهة العسكرية وتأكيد الصلابة والقوة من خلال الموقف الحازم بمواجهة التهديد الأميركي بتهديد مماثل، ولناحية خوض التفاوض من موقع القوة والندية والاستقلالية في القرار والدفاع عن حق كوريا في الحفاظ على قوّتها وبرنامجها النووي، وعدم التخلي عن كلّ أسلحتها النووية والصاروخية، وإبداء الاستعداد لنزع الأسلحة النووية من بعض المناطق في كوريا مقابل رفع العقوبات.. وهو ما اعترف به ترامب بالقول: «إنّ كوريا الشمالية لم تكن مستعدة لتقديم ما نريد لرفع العقوبات، وانّ الزعيم الكوري الشمالي يريد نزع السلاح النووي لكن في مناطق محدّدة فحسب».. لكن مع ذلك فقد أبقى ترامب على باب التفاوض مفتوحاً، بالقول: «الأجواء كانت ودية للغاية مع كيم.. وأنه أمّن التزاماً من كيم لوقف الصواريخ والاختبارات النووية».. وطبعاً يبدو واضحاً الليونة الأميركية واللغة الناعمة مع الخصم الكوري الشمالي الصلب والعنيد لأنه ليس لدى ترامب من خيارات أخرى بديلة طالما أنّ بيونغ يانغ تملك القدرات الصاروخية وأسلحة نووية تردع أميركا وتجعل تهديداتها للرئيس كيم غير ذي جدوى وفعالية.. فيما ترامب لا يتوانى عن إظهار أنيابه الاستعمارية وعدوانيته تجاه فنزويلا لأنّ لديه اعتقاداً بأنّ ذلك يمكن أن يحقق له أهدافه، لكنه سرعان ما سيتراجع عن التفكير في غزو فنزويلا عندما يدرك أنه لن يكون نزهة، ويمكن أن يؤدّي إلى غرق أميركا في فيتنام جديدة، وهذا ما تؤشر إليه التطورات بعد المعادلة الردعية القوية التي أظهرتها فنزويلا والمرتكزة إلى الشعب المسلح والجيش الموحد الملتفّين حول القيادة الصلبة والشجاعة في مواجهة التهديدات الأميركية بشنّ الحرب عليها للإطاحة برئيس وتغيير نظام الحكم المستقلّ، لصالح إقامة نظام عميل تابع للولايات المتحدة.. فأميركا لا يمكن ردعها إلا من خلال امتلاك الإرادة الصلبة غير المساومة وعناصر القوة العسكرية والشعبية القادرة على جعلها تدفع ثمن عدوانها إنْ هي تجرأت بالأقدام عليه..