صورة التفتيش المركزي وهيبته ليستا بخير. ما حصل، أخيراً، في المركز التربوي للبحوث والإنماء يؤكد التوجه المستمر لإضعافه، فلا هو قادر على التحقيق في ملفات مشكوك بأمرها، ولا هو يقوى على صد الهجوم عليه حفاظاً على دوره كجهاز رقابي
في 27 شباط الماضي، حضرت مفتشتان إداريتان من التفتيش المركزي إلى المركز التربوي للبحوث والإنماء. قصدتا مكتب رئيسة المركز بالتكليف ندى عويجان دون أي من مكاتب الموظفين الآخرين، «وخرجتا بلا أي جلبة»، بحسب مصادر إدارية في المركز.
مساء اليوم نفسه، أصدر المكتب التربوي في التيار الوطني الحر بياناً أشار فيه إلى أنّ «مفتشتين إداريتين من الفئة الثالثة اقتحمتا مكتب عويجان، وهي موظفة من الفئة الأولى، بطريقة أشبه بمداهمة (...) وباشرتا بكيل الاتهامات للدكتورة عويجان بانتحال صفة رئاسة المركز، كون تكليفها، بحسب ادعاءاتهما المغلوطة، انتهى كرئيسة للمركز». ولفت المكتب إلى أنّ «عويجان سارعت إلى التخابر مع المفتش العام الإداري فادي هيدموس لاستنكار الحادثة، وأبرزت عبر محامية المركز أوراق تكليفها القانونية بحسب الأصول، ليطلع عليها المفتش العام عبر الهاتف وتُختم الواقعة المؤسفة». المكتب التربوي طالب إدارة التفتيش الإداري بـ«اتخاذ الإجراءات التأديبية اللازمة بحق الموظفتين الهاويتين، كي لا تتكرر المهزلة». بعد يوم واحد، كررت رابطة موظفي المركز التربوي ما جاء في بيان التيار الحر لجهة «تعرض المركز ورئاسته إلى اقتحام وتهجم تجاوزاً للأصول والقوانين».
ماذا حصل فعلاً في 27 شباط؟ ثمة سيناريوهان لا ثالث لهما: إما أن المفتشتين الإداريتين مكلفتان فعلاً من المفتش العام الإداري لتقوما بمهمة معينة، وفي هذه الحال كان يفترض أن يصدر بيان استنكاري عن رئاسة هيئة التفتيش المركزي والمفتشية العامة الإدارية لما جاء في بيان المكتب التربوي للتيار الحر، وأن يُستدعى أعضاء رابطة الموظفين لتهجمهم على التفتيش كونه يكسر صورة التفتيش المركزي وهيبته ودوره كجهاز رقابي، أو أنّ المفتشتين غير مكلفتين فعلاً بمهمة رسمية، وقد أساءتا إلى رئيسة المركز، وبالتالي كان على رئاسة التفتيش أن تجري تحقيقاً وتتخذ إجراءات مناسبة بحقهما.
لكن لم يحصل لا هذا ولا ذاك. فالتفتيش لم يحرك ساكناً حيال التطاول عليه، ولم يجر تحقيقاً بما فعلته المفتشتان في الوقت نفسه، ما يطرح علامة استفهام حول سبب الزيارة، خصوصاً أنّ مصادر في المفتشية العامة الإدارية (المحسوبة على التيار الوطني الحر) أكدت أنّ التكليف حصل فعلاً، لكنه أتى في إطار البرنامج السنوي للتكليفات الخاصة التي يقوم بها المفتشون الإداريون لكل الإدارات العامة التي تخضع لرقابة التفتيش المركزي، ومن بينها المركز التربوي. فإذا كان السبب الوحيد هو الاستفهام عن تكليف عويجان، الجواب كان يجب أن يكون عند رئاسة التفتيش، باعتبار أنّ التكليف يبقى قائماً طالما لم يصدر تعيين بالأصالة. كذلك كان يفترض بالتفتيش أن يتحقق بأن وزير التربية أكرم شهيب جدد توقيع عويجان في مصرف لبنان لمدة شهر، قبل أيام من الزيارة.
أما إذا كان موضوع تكليف المفتشتين هو التحقق من إلزام عويجان الموظفين الحضور إلى مركز عملهم في يوم عطلة مار مارون (9 شباط) لكون توقيعها في مصرف لبنان ينتهي في 10 شباط (يوم أحد)، والبحث عن المعاملات المالية التي وُقعت تحت جنح ليل الجمعة في 8 شباط، بصورة مخالفة للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء وهي معاملات، كما جاء في تقرير المفتشية التربوية العامة، «محضرة مسبقاً في قسم المحاسبة بمواضيع مالية مختلفة مع وضع إشارة عليها بوجوب توقيعها بتواريخ سابقة»، فكان ذلك يستدعي أن يكون الوفد الذي زار المركز التربوي مؤلفاً من التفتيش الإداري والمالي، وأن يلتقي موظفي قسم المحاسبة للاطلاع على تفاصيل هذه المعاملات، لا أن يكتفي بزيارة رئيسة المركز. فهل ما حصل في المركز التربوي كان مسرحية أو «همروجة» لحفظ ماء وجه رئاسة التفتيش (المحسوبة على التيار الوطني الحر)، بما أنّ الرئيس القاضي جورج عطية لم يفتح أي تحقيق بحادثة 9 شباط، وبالتالي «ختم» هذا الملف إلى غير رجعة، واسكات الطرف الآخر؟
وكانت المفتشية العامة التربوية (المحسوبة على حركة أمل) قد طلبت من رئاسة التفتيش إصدار تكليف خاص مالي - إداري لاستكمال التحقيق في المخالفات الحاصلة في يوم مار مارون، واتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة حفاظاً على مكانة الجهاز الرقابي. وأشارت مصادر المفتشية إلى أنّ «رئيسة المركز التربوي عرقلت عمل المفتشة التربوية، التي حضرت في عطلة مار مارون إلى المركز التربوي (بتكليف من المفتشية العامة التربوية، بالتنسيق مع المفتشية العامة المالية)، بمنعها من تصوير المستندات، وهددتها بإحضار القوى الأمنية ومحاسبتها، فيما اتصل رئيس التفتيش في تلك اللحظة بالمفتشة، وطلب منها الانسحاب من المركز، من دون أن يطلع على المعطيات التي ذهبت على أساسها إلى هناك».
إذا كانت ملفات المركز التربوي سليمة وتكليف عويجان قانونياً في الأساس (تكليف وزير وليس مجلس وزراء)، لماذا كل هذا الاستنفار على الجهاز الرقابي ومنعه من ممارسة عمله في الاطلاع على المعاملات؟ بحسب خبير في القانون الإداري، «من واجب التفتيش التحقيق في التكاليف غير القانونية، والموظف القيادي يفترض فيه أن يعلم أن التكليف حالة غير قانونية، وتوقيع الوزير لا يعفيه من المسؤولية. ورئيسة المركز مكلفة بمهام فئة أولى، وليست موظفة فئة أولى، وبالتالي يمكن للمفتش أن يحقق معها ولا ضرورة لمفتش عام».
هل ثمة صراع خفي داخل التفتيش نفسه لمواصلة إضعاف هذا الجهاز والقضاء على عمله، وهل يستخدم المفتشون كأدوات في النزاع وتناتش الحصص؟ وإذا كان رئيس التفتيش جورج عطية قد أعلن للبنانيين عبر اطلالاته التلفزيونية الأخيرة أنه سيدقق بالتزام الموظفين بدواماتهم وهو قام بـ«كبسات» فجائية لهذا الغرض، لماذا لم يزر المركز التربوي حتى الآن ولم يصدر أي معطيات بهذا الشأن؟